لا شكَّ في أن "علم النفس" و"العلوم السياسية" مبحثان مُتمَايِزَان، إذ لكل عُلماؤه وأدبيَّاته. لكنَّ المثير أن الثاني قائم على الأول، لأن الصراع على إدارة السلطة والثروة في السياق الدولي والمحلي مرجوع في المجمل لحاجات الأَنْفُس الفردية ورغباتها. أو قُلْ، تبزغُ الصراعاتُ السياسية في خضم التزاحم على إشباع حاجات أَنْفُس السكان ورغباتهم. هذا يعني أن الأمم الأكثر نجاحا في الإدارة النفسية للحاجات والرغبات هي ذاتها الأنجح في إدارة الاقتصاد السياسي للدول، وهنا يتجلى "علم النفس الاجتماعي" ليكون رابطا بين المبحثين.
ولا عجب أن يكون كثيرٌ من المأزق العربي اليوم مَرَدَّهُ أنَّ صراع القوى السياسية يتجلى تنازعاً على أخلاقيات إشباع النفس البشرية. فهل تكون ثمار العمل البشري محلها التنعُّم والتفنُّن بالملابس والمطاعم والملاهي الحسية والفنية كما يطرحه السوق المعلوم اليوم مثلما نراه في دبي؟ أم أن ثمار العمل محددة بالتقوى والمحافظة على التقاليد في عصور ما قبل الحداثة ما نراه من شعائر وزهد المتعبدين في مكة؟
إجاباتُ العربِ على هذين السؤالين النفسانيَّيْن تحدد موقعهم في طيف واسع جهة اليمن واليسار (بحسب تقسيم ثقافي لا سياسي). جواب أهل اليمين هو ضرورةُ المحافظة على الأعراف الشعبية المتَّبَعة والثقافة الدينية السائدة وجلُّهم من خط المشايخ المشتغلين بالشأن العام كالإخوان المسلمين. لكنْ هناك من يُزاوِدُ عليهم وهم السلفيون فلا يطالبون بالمحافظة على العُرف بل بما هو أشد، كالمطالبة بتغطية وجوه النساء المحجبات وإن لم تكن جداتهن كذلك، وقِسْ على ذلك أمثلةً كثيرة لأحكام مبثوثة في الكتب العتيقة.
هكذا يصير السلفيُّون يمين اليمين. وعلى الضد يُجِيبُ أهل اليسار بضرورة تجاوز الأعراف وترك الثقافة الدينية السائدة وجلُّهم من خط التَحَرُّرِيِّين الليبراليين القائلين بأولوية الحريات الفردية والتجارية والسياسية. لكنَّ هناك من يزاودُ عليهم وهم الشيوعييون فلا يطالبون بمجاوزة التقاليد بل بما هو أشد، من خلال المصادمة مع الدين والقول بالإلحاد وانعدام معيار للقيم الأخلاقية، خلا قيم القانون العادل. هكذا يصير الشيوعيون يسار اليسار.
يوافق العروبيُّون الشيوعيِّين على أولويَّة توجيه التنمية في الاقتصاد المحلي وضرورة التوزيع العادل لفرص الثروة تعليما وتطبيبا وإسكانا وترفيها على العرب دون القول بأن الإلحاد غايةٌ مركزية تثار عليها أم المعارك |
نُسجِّل ها هنا تقاربا بين فريقين، فالليبراليون يقبلون من الإخوان حريَّةَ العبادة بينما يتساهل الإخوانُ مع اقتراف الليبراليين للآثام الفردية وترك العبادات بشرط عدم المجاهرة بها والدعوة لنشرها. لكنَّ أشدَّ التباعد هو بين أقصى اليمين وأقصى اليسار حيث لا يقبل السلفيُّون من الإخوانِ التهاونَ مع البدع فكيف سيقبلون استحلال المحرمات من الشيوعيين؟ وكذا لا يقبل الشيوعيُّون من الإخوان مرجعيَّةً دينية اجتهادية منفتحة، فكيف سيقبلون مرجعيَّةً دينية منغلقة من السلفيين؟ بين هذه المجموعات الأربعة للخطاب العربي المعاصر لا بد من وسط جامع يخفف من تناقض التوجهات في إدراة النفس البشرية.
ولعمري لا وسط جامع في الأمة غير التيار العروبي، ذلك أنه:
1- يُقرُّ السلفيين على سيادة اللغة العربية وتراثها وأنها مُنطَلَقُ التواصل الإعلامي والإداري واليومي.
2- كما أن التيار العروبيَّ يُقرُّ الإخوانَ على حرمة الأرض العربية وثروتها على المحتل وحرمة دماء العرب بعضهم على بعض باسم القُطرية أو الطائفية أو الاستبداد. وهذه الإقرارات أمورٌ يعارضون فيها الليبراليِّين المدافعين عن احتكارات الدول القُطرية، ويخالفون فيها الشيوعيِّين الذين لا يَرَوْنَ رسالةً حضارية تختص بها الأمة العربية بالتوازي مع تبلور الخصوصية الأممية للأوروبيين والصينيين والهنود.
3- وللعروبيين جوامعُ بالمثل مع اليسار الثقافي، حيث يُقِرُّ العروبيُّون الليبراليِّينَ على ضرورة نقد الموروث الفقهي والكلامي والصوفي والانفتاح على مستجدات قيم التنوير والعلوم الحديثة دون القول بأن الاستعمار الاستيطاني تنوير! وأن بيع مقدرات البلاد ضرورةٌ عولمية!
4- كما يوافق العروبيُّون الشيوعيِّين على أولويَّة توجيه التنمية في الاقتصاد المحلي وضرورة التوزيع العادل لفرص الثروة تعليما وتطبيبا وإسكانا وترفيها على العرب دون القول بأن الإلحاد غايةٌ مركزية تثار عليها أم المعارك. بهذه الموافقات والمخالفات يكون التيار العروبي بالفعل هو التيار الجامع للأمة بين تعصب أهل العُرف المحلي يمينا، وتطرف أهل العرف العولمي يسارا بحسب هذا الشكل:
السلفيون → الإخوان → العروبيون ← الليبراليون ← الشيوعيون
ولا شكَّ في أن عبد الناصر وتلامذته كالأسد وصدام والقذافي قد أساؤوا لاسم العروبة بجرائمهم وكذبهم في تحقيق الوحدة والتحرير والتنمية. واشتداد المأزق العربي الحالي هو نتاج لهؤلاء الطواغيت الذين مسخوا سُمعة العروبة ومنعوها أن تكون الأرضية المشتركة لأطياف الأمة. لكن بانكشاف دجل هؤلاء فلا يمنع أن نُحيي تياراً كان يُؤمِّنُ توحيداً على القواسم المشتَرَكَة، وإلا فلا وجود للأمة من خلال استقطاب فئتين ينفيان بعضمها بعضا، وفي النهاية لا يظفر أيٌ منهما بحكم الأمة.
الحق أنه لا يوجد تيارٌ يقدر على حل صراع الهويات على إدارة النفس في العولمة أكثر من العروبيين، وهنا نرجع لمشكلة إدارة النفس البشرية للتمييز بين الجرائم والفواحش. إذ تكاد البشريةُ تُجمِعُ اليوم على ماهية بعض الجرائم "القانونية" فيما يخص أبناء القومية الواحدة من مثل الاعتداء على الأجساد والأموال. وتكاد تجمعُ على صغائر الآثام "الأخلاقية" من جنس إيذاء الإنسان أخيه بالقول المهين أو الفعل المشين. لكنْ لعلَّ أشدَّ الخلاف واقعٌ في "الفواحش"، ذلك أنها آثامٌ أخلاقية سياقية، لكنها تنزل منزلة الجرائم القانونية فجمعت الأمرين.
وارتفاع الفواحش لمنزلة الجرائم سوَّغَهُ أمران:
الأول عدم البداهة الغريزية للفواحش فوجب بذل الجهد للترهيب منها. هذا على خلاف الرهبة الغريزية من القتل مثلا.
والثاني التهويل الأخلاقي الذي تمارسه الثقافات على مقترفي هذه الفواحش، حتى لتصيرَ واقعةُ شربِ الخمر العلني لدى الحاكم العربي في رمضان أهونَ عند العرب من اختلاس البلايين أو قتل ألوف الأنفس! ومن أمثلة الفواحش في الثقافة العربية خلا المسكرات أمور كتحقير المقدسات، والتعري، والتناكح في غير ضابط. والعجيب أن هذه الفواحش ليست كذلك عند كثير من الشعوب الأخرى، لا بل يُظنُّ في بعضها الفضيلة والتعبد شأن المسكرات! وليس غرضي هنا أن أحسم النزاع بين أخلاقيات الشعوب، لكن غرضي أن العروبيين هم أصحاب سنة النبي في التمييز بين الفواحش العظمى والصغرى.
فهل كان رسول الله يقبل من صحابته الجهاد والاستشهاد والخمر في بطونهم؟ "ذكر ابن سعد وغيره أن تحريم الخمر كان في السنة الثانية […] ونقل النووي اتفاق الجمهور عليه. وفيه: قول من قال: قُتِلَ قومٌ وهي في بطونهم." لا بل وأباح النبيُّ أشكالا من المتعة الجنسية خلا الزواج المعروف لدينا اليوم ما نصه: "رَخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها"، رواه مسلم. وعن سبرة قال "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها" رواه مسلم. هذا الفقه العظيم يجاوز محظورات الخمر والجنس ليصل أقدس مكان لدى المسلمين، أي الكعبة. فيُروى عن النبي قوله: "ما أعظَمَكِ، وأعظَمَ حُرْمَتَكِ! والذي نَفسُ محمدٍ بيدهِ، لَحُرْمَةُ المؤمنِ أعظمُ عند اللهِ حُرْمَةً مِنكِ، ماله، ودمه"، أخرجه ابن ماجه.
في ضوء حصول جهاد واستشهاد بعض الصحابة والخمر في بطونهم، وممارستهم للمتعة وكون دم المسلم أعظم من الكعبة، يطرح الفقيه العروبي هذه الموازنات الخطيرة:
1- فما هو الأنفع للأمة اليوم أيها المشايخ، شَنُّ أم المعارك على السكارى والمثليين والإباحيات من أهالي البلاد ودفعهم وجمهورهم للاصطفافِ مع الطاغوت العميل للمحتل تحت ستار حماية الحرية والعلمانية؟
2- أم غضُّ الطرف عن هؤلاء وتأليف قلوبهم بالحسنى لدفعهم وجمهورهم لانتخاب الصالح المنتمي لمصالح العروبة؟ سيقول المشايخ أن الخيارَ الأولَ أسلمُ لتحقيق الجيل القرآني الفريد على مذهب سيد قطب، ولكون النصر لا يأتي مع حصول الخَبَث.
لكن الخيار الثاني هو الذي يقاربُ فقهَ الرسول أعلاه وهو ما نراهُ من الشعوب الصينية والروسية والتركية في القرن العشرين فانتصرت بوحدة جبهتها الداخلية مع حصول الآثام إبان مدافعتها للإمبريالية؟ والسر في فقه تلك الشعوب، أن تلك الآثام تصْغُرُ أمام انهدام الأمة ومن فيها؟ ولهؤلاء حجة عظيمة. فإذا كان الـمُدمِنُ مُدمِناً على شهواته في كل حال، فعلى الأقل لنتجنب فاحشة انهدام الأمة بسببه. لن يفيد الطهر والنقاء عندما تموت أخواتك في القصف وتجوع حفيداتك، ذلك أن الجدة قد تعرض نفسها لإنقاذ الأحفاد من الموت. وإذا كنت لا تصدق فاقرأ قصص المهجَّرين، حيث تتفطر قلوب الجدات على الأحفاد الميتَّمِين المجوَّعين. ولا مراءَ أنَّ كل الكبائر تهون أمام فاحشة محو المدن لأنه بحصولها تزول ضرورات الحياة من مسكنٍ ومطعمٍ ومشفى ومأمن، فتتولد الفواحش من بعدها حتما!
العروبيين هم من يحفظون الإسلام، ذلك أنه لا قيامة للدين بغير أمة حية تحمله. وسيعلم العلمانيون أيضا بأن العروبيين أخصُّ بوسم "الحداثة" منهم، لأن العروبيين هم من يقدرون على التحديث |
الحاصل أنَّ حفظَ الأمة وعمرانها عند العروبيين هو المقدَّسُ الأقدس الذي تهون دونه كل الفواحش التي يستعظمها المشايخ.
ولهذا التوجه لوازم على الاستدلال الأخلاقي لليمين المشيخي واليسار العلماني:
1- إذ مطالبة المشايخُ بستر العورات وقمع الشهوات تأتي في المحصلة بمثابة تسويغ للحكومات العميلة أن تغتصب محارِمَهُم، لأن التشدد على أحكام الشريعة هو تذكرة إبقاء الطواغيت في كراسيهم أمام القوى العالمية للاستمرار في انتهاك الحرمات. كذا قام بشار والسيسي بتخويف المجتمع الإقليمي والدولي من الحرية بإفساح الأول للدواعش والثاني لحزب النور السلفي. فهاجت البشرية ضد حرية العرب وربيعهم.
2- وبالمثل فكلما طالبَ العلمانيُّون بأولوية حرية الشهوات في كل لجنة دستورية ومُصالـَحَة برلمانية، بَدَوا كمن يُصرُّ على أن تسلِّطَ الحكوماتُ عليهم المتعصبين من الدهماء يضربونهم، ويضبطونهم في مواضع الخلوات حتى يصمتوا ويظلوا في صف الطواغيت لا ناقدين لهم. إذا وازنَّا بين سوءِ اختيار الأولويات بين المتخاصمين من المشايخ والعلمانيين فلننظر في معكوس أولوياتهم. أولم يكن أحفظ لنسائكم أيها المشايخ أن تستروا أعراضكم في سوريا بقبول كشف عورات من شاء راغبا، باسم ثورة سورية مدنية تجمع كل الأطياف؟ وبالمثل، أولم يكن أحفظ لدمائكم أيها العلمانيون أن تكفوا الدهماء عنكم كما حدث لفودة في مصر وحتَّر في الأردن؟
والحق أني لو كنت طاغوتا لدولة قُطرية عميلة للإمبريالية لكانت لعبتي اليومية أن أترك المشايخ والعلمانيين يتصارخون على بعضهم في فروع الأحكام لإلهاء العامة، بينما أسرقُ البلادَ وأستعبد العباد وأحرِمَ التيار العروبي الوسطي من تأليف القلوب واستلام الحكم. لكنْ لا تلوموا الطاغوت أيها المتخاصمون العرب أن كنتم تريدون لأمهاتكم الافتضاح ولأجسادكم طعن السكاكين، فهذا هو الذي يُبقي الطواغيت على كراسيهم، إنه تحارب المشايخ مع العلمانيين أولا، وتحارب المشايخ فيما بينهم طوائف ومذاهب وحركات ثانيا، وتحارب العلمانيين فيما بينهم بين اشتراكيين وليبراليين ثالثا.
هذه الاستقطابات المتنافضة هي الوقود الذي يمدُّ الطواغيت العرب، وهي التي جعلت العربي يكره نفسه، ويَسْتَعِرُّ من نَسَبِهِ لأمة العرب، فيكره الأنموذج والمثال الذي به يصير صاحب حضارة، أي مثال العروبة. ولا يمكنُ صَدُّ الطواغيت بغير ثقافة وسطيَّة توحد الفرقاء على القَدْرِ الموحِّد لسكان الوطن العربي، ألا وهو سيادة الأمة على لغتها، وأرضها، وثرواتها، لإشباع أنَفُسِ أبنائها من المحيط إلى المحيط. كل ما يمسُّ بشروط العُمران فاحشة كبرى تهون أمامها الآثام الصغرى، أكانت الخمور لدى السلفيين أو زواج القاصرات لدى الليبراليين.
بمثل هذا الفقه للأولويات سيتكاتف العربُ على تحديات التحديث (من طاقة وتقنية وغذاء وصحة وتعليم وترفيه وحوكمة وأمن). عند ذاك سيعلم الأمبرياليون، والصهاينة، والعجم، أنَّ في جوارهم عِملاقاً لا يُضام. وعند ذاك سيعلم المشايخ أن العروبيين أخصُّ بوسم "الإسلاميين" منهم لأن العروبيين هم من يحفظون الإسلام، ذلك أنه لا قيامة للدين بغير أمة حية تحمله. وسيعلم العلمانيون أيضا بأن العروبيين أخصُّ بوسم "الحداثة" منهم، لأن العروبيين هم من يقدرون على التحديث، ذلك أنه لا حداثة في دولة قُطرِيَّة محرومة من السيادة والوقوف بنديَّةٍ أمام أقطاب العولمة. ماذا خسر العرب بانحسار التيار العروبي؟ لقد خسروا الإسلام والحداثة معا في القرن العشرين، لكن المستقبل ينتظرهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.