شعار قسم مدونات

من حكم المتنبّى وفلسفته.. وصايا نافعة لكل طموح!

blogs - المتنبي

المتنّبي من أحبّ الشعراء الذين استفدتُ من حِكمهم طيلة تقلّبات الدّهر، ومسيرة مشواري في الحياة الأكاديمية والعمل، فالشاعر حكيم مبدع في تصوّراته لمشاكل الحياة ومتاعبها، ورحّالة جوّاب آفاق. بأعذب الألفاظ وأيسر المعاني يلقي إليك حِكماً ودُرراً، لو قرأتَ مجلّدات الكتب ومحاضرات الدكاترة في التّنمية البشرية ما استوعبتَها إلا بعد جهد، ففي الأثر "أن من البيان سحراً" والمتنّبي متربّع بعرش البيان وسماه معاصروه بمالئ الدنيا وشاغل الناس هو القائل:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي .. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فالحكيم المتنبي شخصية طموحة، وشجاع مغامر، وبطرق سلمية أراد أن يبلغ مناه ويحقق سؤدده، في عالم يسود فيه الأقوياء لا الحكماء، ويسوسه ملوك بالتوريث لا بالاختيار، وإن لم يكن أهلا للسلطة والسياسة. لذلك عانا معاناة الغريب عن أهله، وأنشد قصائد رائعة في مقاطعها حكم وقواعد في جميع شؤون دروب الحياة، ووصايا نافعة لكل طموح لم يساعد الحظ، واخترتُ لكم سبعاً من درره تذكرة لكل نابغة، وتبصرة لكل ذي همّة عالية.

أولاً: المشقّة والتعب جزء من حياة كلّ ناجح

لولا المشقّة ساد النّاس كلّهم .. فالجود يفقر والإقدام قتال

ثانياً: ربّ ضارة نافعة وعداوة تنفعك
الحياة لن تكون خطّا مستقيماً وطريقاً مفروشاً بالورود لمن هامته في الثريّا، فقد تحدث للمرء كبوة فينهض بعد ألم. هذا الكبوة مفتاح لمستقبل أفضل وخبرة لنضوج أمثل، فلا تنتكس فتفشل، وبوضوح قد يتعرّض جسمك لمرض، ولن تستعيد صحتك إلا بعلّة أخرى، فبعد جراحة وتخدير قد يستقيم جسمك ويهدأ الألم. وقد يمنى مشروعك بخسارة فتراجع حساباتك فتربح تارة أخرى، ورُبّ عتاب بين الأصدقاء أدى إلى التقويم والوئام فقال المتنبي:

لعلّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُه .. فرُبّمَا صَحّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ ُ

ثالثاً: وبضدّها تتبيّن الأشياء
الحديث عن الجنس والمقارنة بينهما تحيّرت به الشعوب، وأصبحت معضلة الأفهام عند المثقفين، والمسألة بسيطة لا تحتاج إلى مصنفات وأدلة غير مقنعة.

نعم لله درّه من حكيم، لا أحد يستطيع العيش في لون واحد، والتصفيق لزعيم أوحد، فلابدّ من ضدّ لتستقيم الحياة وتنّوع لفهم النعم والنقم. فكيف يكون الحال بليل بدون نهار، ونور بدون ظلام.. والقائمة تطول. أفضل تعريف لتوضيح الشيء ذكر ضدّه، فالحرية ضدّ العبودية، والكرامة ضدّ العمالة، والفرح غير الترح، وهل يتبيّن قيمة العدل إلا عند عرفان الظلم. ومن المسلمات عند أهل المنطق أن الضدّين لا يجتمعان.

رابعاً: ما هي بلدتك وجمهورك؟

تنتشر العصبية والتأقلم في أوساط الناس، فهناك من يدافع عن بلده وأهله وإن جاروا ومالوا وأفسدوا الحرث والنسل، وآخر يحتمل الضيم والإهانة في وكره، ويكره الترحال والبعد عن الوطن. أما عند الشاعر فرأيٌ آخر، ويرى أن أيّ بلد يوافقك في فكرتك، وتعيش فيها بمهنتك فتلك بلدتك، فارحل فكل بلاد الله أوطان. أما الأهل فأهلك من صدّقك ووقف معك في الضراء والشدّة سواء دنا أو قرب.

وَمَا الحُسْنُ في وَجْهِ الفتى شَرَفاً لَهُ .. إذا لم يكُنْ في فِعْلِهِ وَالخَلائِقِ

وَمَا بَلَدُ الإنْسانِ غَيرُ المُوافِقِ .. وَلا أهْـــــــلُهُ الأدْنَوْنَ غَيرُ الأصادِقِ

خامساً: إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

قرأتُ قبل أيام تاريخ الدروايش، فشعرتُ بالحزن على ما أصاب السيد محمد عبد الله حسن قائد الدراويش، فقد همّ تحرير البلاد، فقلّ مناصروه من الصوماليين وكثر أعداءه من الاستعمار وأعوانه. فهكذا حال المصلحين في قديم الزمان وحاضره، إذا أردت إصلاح أمة تعوّدت على الهوان والضياع، قلّ مؤيدوك وكثر المحبطون والمخذولون. فلا تيأس وانطلق إلى العُلا، فكم من هِمّة أحيت أمّة، وتلك من سنن الحياة، وكن واحداً بألف رجل، فستدخل التاريخ من القائمة الذهبية، ويكون عمرك الثاني سعادة ونجاح.

وحيد من الخلان في كل بلدة .. إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

سادساً: الجندرية عصا العجزة

الحديث عن الجنس والمقارنة بينهما تحيّرت به الشعوب، وأصبحت معضلة الأفهام عند المثقفين، والمسألة بسيطة لا تحتاج إلى مصنفات وأدلة غير مقنعة. الخلاصة أن الزوجية حقيقة كونية، فالزمن يشمل الليل والنّهار، والإنسان ذكر وأنثى، ولكل منهما وظائف مشتركة وأخرى مختصّة لجنس دون آخر، ومعيار التفاضل والتفاخر اكتسابيٌّ لا خِلقي. فالمتنبي يقول لدى رثاءه لموت أم سيف الدّولة، بعد تعداد الأخلاق والفضائل للمرحومة كمقدمة، اختتم بالنتيجة الصحيحة فقال:

ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا .. لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ

وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ .. ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ

سابعاً: كيفية التعامل مع الحساد والمنافس الحاقد

تلك فئة من البشر عجزت عن ميدان التنافس، فدبّ في نفسها البغضاء والحسد، فتُحاول تعكير فكر النابغة، وصدّ مسيرته بعراقيل، والوقيعة بينه وبين الجماهير أو ولاة الأمور. فبدلا من الإذعان والتهنئة للفائز المتربع بعرش الشعر، قام الشعراء بالغارة عليه، فدافع عن نفسه قائلا:

أَفي كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْني شُوَيْعرُ .. ضَعِيفُ يُقاويني قَــــــــــــصيرُ يُطَاوِلُ

لِسَاني بِنُطْقِي صَامِتُ عنه عَادلُ .. وَقَلْبي بِصَمْتي ضَاحكُ مِنْهُ هَازلُ

وأَتْعبُ من نَادَاكَ مَنْ لاَ تُجِيْبُهُ .. وأَغْيَظُ مَن عَادَاكَ مَنْ لاَ تُشَاكِلُ

وقال للجماهير ومتابعيه:

وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ .. فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان