نشأ مصطلح "النشيد الإسلامي" في سبعينيات القرن الماضي، مع انتشار الصحوة الإسلامية في عالمنا العربي، ومن باب توفير البديل عن الغناء الهابط. حيث عمد أصحاب المشروع الإسلامي إلى التمايز عن المجتمع العلماني – أو القومي – في مجالات عملهم ورؤاهم، فشكّلوا فضاءهم الخاص: الفن الإسلامي والأدب الإسلامي والاقتصاد الإسلامي والتربية الإسلامية والإعلام الإسلامي.. وتركزت مضامين "النشيد الإسلامي" في تلك الحقبة على الحماسة والاعتزاز بالأمجاد والدعوة إلى الإصلاح ورفض ظلم الحاكم. وتأثر "النشيد الإسلامي" بمحنة الحركة الإسلامية في سوريا في بداية الثمانينيات، فنشأ حينها "أدب المحنة"، وأبرز منشديه: أبو دجانة – أبو الجود – أبو مازن – أبو راتب..
ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، برز "الفن الجهادي" الذي ساهم في إعادة إحياء ثقافة الجهاد لدى الشعوب العربية والحث على الجهاد، وفي تظهير بطولات المقاومين في مواجهة المحتل الصهيوني. وتربّع الموضوع الجهادي على "الفن الإسلامي" لعقود متتالية، حتى كانت الأناشيد الثورية تصدح في مناسبات الأفراح، وغابت عن ساحة العمل الإسلامي الفنون في العناوين الإنسانية العامة، نظراً للمحن التي استنزفت الحركة الإسلامية، ثم مرحلة الانتفاضة في فلسطين المحتلة. ومع بدايات القرن الحالي، شهدت الدعوة الإسلامية اندماجاً أكثر في مجتمعاتها بعد أن تمتعت حركاتها بهامش من الحرية، وبعد تراجع وتيرة الجهاد العسكري في فلسطين لمصلحة المشاركة في العملية السياسية.
نجد في السيرة النبوية عدداً من المواقف التي استخدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصطلح الغناء كفعل مباح بضوابط معينة. |
مع هذا الواقع المستجدّ، اتجه نتاج المنشدين في عالمنا العربي إلى الشأن الإنساني والقضايا العامة. رافق هذا التحوّل في المضامين، تطور في النظرة الشرعية لاستخدام الموسيقى في الأناشيد، حيث شهد "الفن الإسلامي" نقلة من الإنشاد المنفرد مع الدف إلى إنشاد الفرق مع إيقاع موسيقي لا يختلف عن الأغاني. أمام تداخل هذا المشهد، ومع إيجابياته الكثيرة، وقعنا في مشكلة تمثلت في عدم وضوح المعايير في تصنيف الفنون، فما عدنا نستطيع أن نميّز بين الأنشودة والأغنية، وتالياً اشتبه علينا تحديد الحكم الشرعي في الأعمال الفنية. وأكثر من يواجه هذه الإشكالية المؤسسات الإعلامية التي تلتزم الضوابط الشرعية في عملها.
غياب المعيار الواضح
لقد نشأنا في تربيتنا الدينية على فكرة أن سماع النشيد مباح، فأما الأغنية محرّم سماعها. ابتداءً أقول أن استخدام مصطلح الغناء لا يندرج دائماً في خانة السلبي، فقد استخدمه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه عن قراءة القرآن الكريم، فقال: "من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا". وأخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان.. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا.
ونجد في السيرة النبوية عدداً من المواقف التي استخدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصطلح الغناء كفعل مباح بضوابط معينة. لكن كما سبق وأشرنا أعلاه، فقد تم اعتماد مصطلح "النشيد" لتمييزه بالمضمون عن غيره بعد أن سيطر على الغناء صفات غير منضبطة، فكان النشيد الديني العام، ثم النشيد الإسلامي الذي أخذ منحى حركياً.. إنما استخدام مصطلح الأغنية أو الغناء فهو ليس بعيداً عن قاموسنا الشرعي. وأنتقل هنا لأطرح سؤالاً مفصلياً: ما هو المعيار الذي على أساسه يمكن أن أصنف هذا العمل الفني أمامي أنشودةً أو أغنية، وبالتالي يُسمح لي شرعاً سماعه وبثه أو لا؟
فلأطرح هذه المحددات الثلاث، ولننظر فيها:
إذا كانت الكلمات هي المعيار في الحكم الشرعي على العمل الفني، رصانة أو إسفافاً، فسنجد في كلمات كثير من أغاني لطفي بوشناق مثلاً أو وديع الصافي أو مارسيل خليفة أو حمزة نمرة.. الخ، محتوى إنسانياً لا يخدش حياءً ولا يعدّ ابتذالاً، في حب الوطن وفي العلاقات الإنسانية التي لا تتعارض مع الشرع.. فما حكم هذه الأعمال؟ ألا يمكن هنا في هذه الحال أن تأخُذ هذه الأغاني حكم الأناشيد؟ وأيضاً في موضوع المحتوى، قد يقول قائل: الأغاني التي تتحدث عن الحب والغزل هي إسفاف أخلاقي.. فأقتبس من مقالة قيّمة للأديب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله بعنوان "من غزل الفقهاء" جاء فيها: أوَما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد:
وما سعاد غداة البين إذ برزت .. إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة .. لا يشتكي خصر منها ولا طول
يتابع الشيخ الطنطاوي: ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربيعة ويروي شعره، والحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه بقول الشاعر:
اليوم عندك دلّها وحديثها .. وغداً لغيرك كفّها والمعصم
انتهى كلام الشيخ الطنطاوي رحمه الل، ولا بدّ من التنويه إلى مسألة، الغناء الفني له وظائف عديدة، منها التعبئة وشحذ الهمم، ومنها أيضاً الترويح عن النفس (الترفيه)، وبالتالي ليس مطلوباً من كل الغناء أن يكون في الجهاد والبطولات أو المدح النبوي. وقديماً كان الشعراء العرب يفتتحون قصائدهم بالغزل، ولم ينكر عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لقد وقعنا للأسف في فخ الحكم على العمل – قبولاً أو رفضاً – بحسب مؤدّيه، لجهة التزامه الديني أو الحركي. وسأطرح سؤالاً لا أعرف جوابه: متى نُطلق على هذا الشخص صفة "منشد إسلامي" وذاك "مطرب"؟ إذا كان الجواب هو الالتزام الديني، فالأمر قد تشابه علينا، حيث ما عدنا نحسن التمييز بين هذا وذاك، لا في السمت ولا في السلوك. فضلاً عن أن الالتزام الديني هو شأن خاص بالإنسان بينه وبين ربه، وليست مهمتي الحكم على الأشخاص في التزامهم السلوكي الشخصي كي نتقبل أعمالهم أم لا.
دعونا نقرأ معاً هذه الكلمات: "أحنّ إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي.. وأعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي.."، هذه كلمات للشاعر محمود درويش، غناها الفنان مارسيل خليفة في أداء وجدانيّ راقٍ. فهل أرفضها لمجرد أن مغنيها ليس مسلماً أو لربما شيوعيّ؟ علماً أن الكلمات نفسها قد يغنيها "منشد إسلامي" ونطرب لها وتدمع عيوننا لها. لنأخذ نموذجاً آخر، مع هذه الكلمات:
يا مظلوم ارتاح، عمر الحق ما راح..
ليك يا ظالم يوم، تشرب أسى وجراح..
يا اللي اتظلمت خلاص، مستنّي ايه من الناس..
ولا شكوى غير لله، ما تخافشي وانت معاه
هذه كلمات أغنية للفنان المصري حمزة نمرة، غناها بعد انقلاب السيسي في مصر. لكن حمزة نمرة ليس "إسلامياً"، ولا يحمل سمت الالتزام، فماذا نسمّي عمله؟ وماذا نطلق عليه: فنان أو منشد؟ وأزيد في القول: بعض الفرق التي تصنف نفسها إسلامية، أنتجت أعمالاً لا يقبلها التزام ديني، فهل اسم "الإسلامية" لفرقتها يعطيها صك براءة لكل أعمالها؟ وبالمقابل يمكن أن نجد عملاً غنائياً لمطرب، أرقى وأكثر رصانة من عمل ذاك المنشد. لا يُعقل أن نرفض عملاً راقياً (نصاً ولحناً) لمطرب ما، ونقبل عملاً "مبتذلاً" لمجرد أنه لفرقة "إسلامية". لسنا نعمّم، لكن هذا التناقض يحصل، فالمعيار هنا أيضاً متداخل وغير واضح للحكم على العمل الفني.
نصل ثالثاً إلى ما يمكن أن نعتبره معياراً في الحكم على الأعمال الفنية، وهنا أنا أتحدث في دائرة من يتبنى حكم إباحة استخدام وسماع الموسيقى، بضوابط معينة. لسنا بحاجة لإثبات إفراط بعض الأعمال الإنشادية في استخدام الموسيقى، فقد بات مما عمّت به البلوى. وبالمقابل تجد كثيراً من الأعمال الغنائية، استخدمت الموسيقى بانسياب وتماهٍ كبير مع الكلمات، فلا تؤذي أذناً ولا تستفزّ هادئاً. مع الأسف، لقد باتت كثير من "الأناشيد الإسلامية" هذه الأيام تشبه إلى حدّ كبير الأغاني الطربية في الإيقاع والموسيقى. وبغضّ النظر عن صوابية هذا الاستخدام من عدمه، لكن حتى هذا التمايز قد غاب، فتشابهت أناشيدنا مع أغانيهم.
وأختم بالسؤال الذي بدأنا به: ما هو المعيار الذي ننطلق منه للحكم على العمل الفني، أنشودة أو أغنية، وبالتالي تحديد حكم سماعه وبثه عبر إعلامنا؟ الأعمال الفنية تشابهت علينا، والتوصيفات تداخلت، ولا بدّ من إعادة النظر في الأحكام التي نطلقها. نضع هذه الضبابيّة برسم فقهائنا المعاصرين المتنوّرين، الذين نثق بإدراكهم لأهمية الفنون في التربية وغرس القيم، وبعلمهم بحاجة المشروع الإسلامي إلى الاندماج بشعوبه أكثر، والتماهي معها للتأثير عليها، والخروج من ذاك "الفضاء الخاص" الذي كانت له ظروفه في مرحلة تاريخية معي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.