من أجل عمل أكثر اتقاناً عليك أن تخطّط، أن تضع خطة استراتيجية لعملك تتضمن أهدافك العامة (الأهداف الاستراتيجية)، وخطط تشغيلية تفصيلية تتضمن خريطة أو خطوات إنجاز الأهداف الفرعية للوصول للأهداف الاستراتيجية. "هذا غالباً ما يخبرنا به رواد إدارة الأعمال وقادة الشركات الناجحة". يكملون في بعض الأحيان بأنّه عليك أن تتحلى بالمرونة أثناء التخطيط في بيئات عمل غير مستقرة، تتعرض للكوارث أو الحروب لأن احتمالات تغيّر الظروف المحيطة بالعمل ضمن تلك البيئات كبيرة جداً، لذلك عليك أن تخطط بناء على الأهداف المتحققة وليس على الأهداف الممكنة (هنا عملية التغيير والتعديل مستمرة من أجل الوصول للغايات)، وعليه يجب أن تبني خطتك بطريقة تجعلها قابلة للتغيير إذا لم تستطع الوصول إلى بعض الأهداف بسبب البيئة المتغيرة، وعليك أن تستفيد من المؤشرات التي أدّت لنجاحك في تحقيق بعض الأهداف من أجل بناء الأهداف الجديدة لتمنحها فرصة نجاح أكبر، وكل ذلك يجب أن يسير باتجاه الهدف الاستراتيجي.
كل ذلك يبدو جيداً ومنطقياً وجميلاً، على الرغم من أنه غير منضبط على الإطلاق ويعتمد على مرونة شديدة، وقدرة هائلة في تحمل الضغوط والتحكم بالانثناءات المحتملة مهما كانت حدّية أو حتى انقلابية (قد تصل أحياناً للتخلي عن الغاية أو تغيير الاستراتيجية كاملةً والبدء من نقطة الصفر، و تحمل خسارات جسيمة في فريق العمل والممكنات). غالباً في هذه البيئات (غير المستقرة على الأقل) لا ينال التخطيط الاستراتيجي نفس الأهمية التي يحظى بها التخطيط التشغيلي، فهو يحدد فقط رؤيا وأهداف وغايات بعيدة لا يمكن أن تتحول إلى إجراءات إلا من خلال التخطيط التشغيلي، الذي يحولها إلى مجموعة أهداف مرحلية متعاقبة أحياناً ومتماشية أحياناً أخرى، ويضع لها آليات التقييم والمتابعة اللازمة، والخطوات والمؤشرات التي تضمن قدر الإمكان إنفاذها بالشكل الجيد. في بيئة العمل المباشرة يبدو هذا الكلام منصفاً جداً، فعليَّ أن أركز بما أفعل، من أجل تحقيق ما أريد، وليس التركيز على ما أريد، دون الانتباه الشديد لما أفعل، لأن العمل إذا لم يكن متقناً وذا جدوى قد يجعل كل ما يحيط به أو يهدف له عديم الفائدة.
من أجل عمل أكثر نجاحاً، على الخطة الاستراتيجية أن ترزح تحت مطرقة التغيير نفسها التي تكون مسيطرة على آليات التشغيل التي تخضع للظروف، فكثير من الأهداف الاستراتيجية مع مرور الوقت تصبح بلا جدوى، أو بلا إمكانية للتحقق، على الرغم من النجاح بالأهداف التشغيلية، والتي تتشكل في مسار خاص لا ينتمي للاستراتيجيات مع الزمن، لأن الهدف التشغيلي يحقق أثره المباشر في الأمور التي يقوم بفعلها، وليس شرطاً في البيئة المتغيرة أن يوصل إلى النتائج المرتجاة مهما كان مرناً، لذلك على الهدف الاستراتيجي أن يتغير من أجل تحقيق الإنجاز أو الغاية، ويعاد النظر فيه سنوياً أو كل ستة أشهر كما يحدث بالنسبة للخطة التشغيلية، ويجب أن تقيّم احتمالات حدوثه على أساس الأهداف المحقِّقَة له ومدى فاعليتها وتحققها في هذه الفترة، فيخضع سلّم التخطيط بالكامل (وليس فقط التخطيط التشغيلي) لجميع التعديلات اللازمة التي بإمكانها أن تحفظ الإنجاز، وليس فقط للتعديلات الجزئية التي تحافظ على الهدف.
الأهداف الكبرى ذات الصبغة الاستراتيجية، تأتي لوحدها عندما يتم تحقيق ذلك الكم الكبير من النجاحات المتداعية في الطريق، والتي تكون دائماً أموراً ممكنة، وهذا ما علينا صياغته في حياتنا والعمل لأجله |
إن الاستراتيجيات ذات الصبغة الرسالية والوطنية والمتعلقة بطموحات الأمم هي أكثر ما يقع ضحية الجمود وتبديل الوسائل في سبيل تحقيقها، دون إعادة النظر فيها أو تعديلها أو حتى تصحيحها، إنها تكتسب نوعاً من القداسة تجعلنا نصرُّ على تجاوز الفشل المتراكم مهما طال أوانه، بحجة أنها أشياء لا يمكن المساس بها، ولها صفة المبادئ والاعتقادات الراسخة. إن الأهداف التي تبدو غير واقعية أو التي تصل إلى هذه الحافة ليست جديرة بالعمل وبذل الجهد في سبيلها، مهما كانت مهمة وذات رسالة سامية، أنها تورث العجز مع الأيام، كما تورث الغرق في مستنقعات الأحلام والأماني وطول الأمل الفارغ، الذي يعلق النجاح دائماً على الأجيال القادمة (التي تكون وفية لإعادة توليد هذه الآلية)، ويبقى كل جيل بانتظار الجيل الذي يليه ويكتفي بشرف المحاولة وبطولة الثبات.
معظم الخطط الاستراتيجية للمؤسسات التي تحمل (قيماً وطنية أو دينية كبرى) تقع تحت سطوة صعوبة التخلي عن هذه الأهداف بوصفها ثوابت لا بد من فعلها، وتظهر هذه (المفاهيم الكبرى) بكثرة في خطابات هذه المؤسسات التي تنجح في جلب الشباب المتحمس للغايات التي اكتسب إيماناً كبيراً بها، ولكن هذا الحماس لا يصمد طويلاً إذا لم يتعلق بأهداف محدودة سهلة الوصول، فسرعان ما تقوم هذه الثوابت المتحجرة بوأد حماسه عندما يصيبه الشعور بالعجز أمام واقع متغير بشدة وممكنات محدودة ومستقبل مجهول المعالم.
مفهوم وحدة الأمة (على سبيل المثال) أحد تلك المفاهيم، والذي يبدو مفهوماً أخرقاً لا يعدو كونه أمانٍ للحالمين به، يجعلهم يشعرون أنهم على الطريق الصحيح في إرضاء أرواحهم التي لم تحقق أي شيء آخر، عادةً ما يفعله هذا المفهوم أنه يجعلهم يختمون حياتهم التعيسة بقولهم: "لقد فعلنا كل شيء، ولم ننجح، وعليكم أن تفعلوا ما تستطيعون". (في وصية لمن بعدهم). مع أنهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً سوى أن وضعوا لأنفسهم أهدافاً تشعرهم بصعوبة ووعورة الطريق الذي يسلكونه في ظل واقعهم المحبِط على حدّ تعبيرهم، ولكن التمسك بهذا الهدف يجعل إحباطهم أكثر تبريراً، فهو هدف كبير جداً لا يكفيه جيل أو جيلين ليتحقق.
إن الأهداف الكبرى ذات الصبغة الاستراتيجية، تأتي لوحدها عندما يتم تحقيق ذلك الكم الكبير من النجاحات المتداعية في الطريق، والتي تكون دائماً أموراً ممكنة، وهذا ما علينا صياغته في حياتنا والعمل لأجله. إن السعي وراء الممكن، هو الطريق لجعل غير الممكن بمتناول اليد مع مرور الزمن. ليصبح مجرد آليات تشغيلية سهلة، لا تحتاج سوى قرار المضي في الطريق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.