صديقي المثقل بالأحمال، الذي حمل حقيبته ذات يوم مسافراً خارج وطنه، الحلم الذي كان يخالجه دائماً أصبح حقيقة، لكن للأسف لم يُسرع هو بتحقيقه. بل جاءت الأحداث المؤلمة لمدينته وبلاده لتعجّل بذلك، وكم أسرعت هذه الأحداث المؤلمة بتحقيق أحلام الكثيرين، ولكنها في نفس الوقت وأدتْ معها كثيراً من الأحلام والآمال، بل مات الحلم وصاحبه. لَم يخرج من تحت الأنقاض إلى يومنا هذا، ينتظر مُغيثاً يُخرجه. إن تترك بلدك لاجئاً إلى بلدٍ آخر، هذا يعني أن تقبل بكل العروض التي تأتيك، سواءً كانت متعبةً أو غير متعبة، تتناسب الأجور مع كمية ساعات العمل والتعب أو لا تتناسب، عليك أن تقبل، بل هو الخيار الأوحد في كثيرٍ من الأحيان، وهذا حصل معه ومعي ومع الكثيرين.
دوام الحال من المحال وكل شيء في هذا العالم سيتغير، ومن لم يتغير هو حتماً سيتغير بفعل الواقع. بعد مُضي خمس سنوات من عمله مع نفس المؤسسة قرر الرحيل منها إلى اللاعودة، فقد أعطى لها الكثير ولَم تعطهِ إلا القليل، إلا أنه في سنواته هذه استطاع أن يطور ويطور ويغير الكثير، وحتى لو أعطته الكثير، فالتغيير سنة من سنن الحياة. ولقد سألته ذات يومٍ، لماذا تركت عملك، فأجابني؛ ينبغي على الإنسان ألا يمكث في نفس الشركة أو المؤسسة أكثر من خمس سنوات لأنه سيبدأ يُعيد نفسه ويكررها، وفي كثيرٍ من الأحيان يُزهد به وبنتاجاته.
يقول تشارلز بوكوفسكى: هُم لا يدفعون أبداً للموظفين ما يكفي كي يتحرروا، فقط يدفعون ما يكفي للبقاء أحياء، والعودة إلى العمل. |
ولا زلت أذكرُ أني تحدثتُ ذات يوم مع أمي عندما كنت في الثانوية، قلت لها: أتمنى أن أكون بعمل جديد كل خمس سنوات، أحلم دائماً برؤية عوالم جديدة من الحياة. أتعرف على أناسٍ جدد مختلفين تماماً، يلهمونني الأفكار والقناعات، ينقدونني من التيه، اتعلَّم منهم. أنا لا أُحب المكوث كثيراً في نفس الأماكن، فإن الماء إذا مكث أصبح آسناً.. فإن وقوف الماء يفسده.. إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ.
حينما تمكثُ كثيراً في نفس المكان ستُضّيع الكثير من سنوات حياتك، كم نضيّع من أعمارنا في مؤسسات نعطيها الكثير من الجهد والوقت، ولا تعطينا إلا الفُتات من المال. فضلاً أن هذه المؤسسات تقتطع الكثير من حرياتنا، وتؤثر على حاجاتنا الشخصية وعلى علاقاتنا العامة. الانتقال من مكانٍ لآخر يعطيك القوة، وفي نفس الوقت يزيد من رصيدك في الحصول على الفرص، وقد تكون محطة من محطات التغيير المهمة في الحياة.
يتساءل الكثيرون هل نمضي وننطلق ونترك وظائفنا، ونهيم على وجوهنا بلا أعمال، بالتأكيد ليس الكلام هو دعوة لترك الأعمال بصورة عشوائية غير منتظمة، وإنما تذهب إلى التغيير بالصورة التالية: بصورة دقيقة وجدية. أن تخطط لترك المؤسسة أو الشركة أو العمل.. أن تضع سقفاً زمنياً لا يتجاوز الثلاث السنوات، ولا يزيد عن الخمس سنوات وتسعى للتشبيك مع مؤسسات أخرى.. أن تبحث عن البديل خلال هذه المدة الزمنية في المحيط الذي تعمل فيه.. أن تطور مهاراتك وإمكانياتك وتوسع علاقاتك.. أن تصنع لك اسماً في مجال عملك وتخصصك، يعرفك الناس به، وتسعى للتميز في اختصاصك من خلال أنشطتك المتنوعة.. أن تسعى للعمل على تأمين دخل خاص بك، فالعمل عند الناس والوظيفة، لا يُغنيك ولا يسمنك من جوع.
يقول تشارلز بوكوفسكى: هُم لا يدفعون أبداً للموظفين ما يكفي كي يتحرروا، فقط يدفعون ما يكفي للبقاء أحياء، والعودة إلى العمل. وتبقى رحلة التغيير الوظيفي من أعظم الرحلات التي من الممكن أن يفعلها الإنسان في حياته، وهي رحلة مهمةٌ لا بُدّ منها، فالخطوة الأولى على بساطتها مهمة، فإذا خطاها الإنسان هان عليه ما بعده.