يعتبر اغتيال الأستاذ جمال خاشقجي حدثت مفصليا، فما بعده ليس كما قبله وهو لا يقلّ أهمّية عن حادث حرق محمّد البوعزيزي لجسده والّذي كان شرارة اندلاع ثورات الرّبيع العربي. فهل نحن أمام موجة جديدة لثورة مازالت أسبابها قائمة أم هي مجرّد ردّة فعل مبالغ فيها قد تنطفئ جذوتها مع مرور الوقت؟
في السّابع عشر من ديسمبر من سنة 2010 أقدم شاب تونسي على حرق نفسه في سيدي بوزيد احتجاجا على ما تعرّض له من إذلال ومهانة اثر صفعه ومنعه من الانتصاب بعربة الخضار وقد أثارت الحادثة موجة من الاحتجاجات الّتي بدأت تنتشر كالنّار في الهشيم وتتطوّر الشّعارات من مجرّد المطالبات الاجتماعية والاقتصادية الإصلاحية إلى المطالبة بإسقاط النّظام : نظام بن علي الفاشي القمعي الّذي لم يتصوّر احد أن يتهاوى ويسقط بتلك السّرعة ،27 يوما كانت كافية لجعل المخلوع يهرب إلى السّعودية.
هرب رأس النّظام وبقي جسده الفاسد المفسد الواقع تحت تأثير الصّدمة ليمتصّها في مرحلة أولى ثمّ ليسترجع أنفاسه بل وليتصدّر المشهد بعد هرسلة لثورة يتيمة خرساء وبلا مخالب استعملوا فيها كلّ أساليب الدّعاية السّوداء وأفسدتها القوى الخارجية بسكب مالها الفاسد وساهم ما يسمّى بمعسكر الثورة في إفشالها بتشرذمهم وقصر نظرهم وحساباتهم الضيّقة لنصل إلى الوضعيّة الّتي نسأل فيها بعد سبع سنوات هل قامت فعلا ثورة؟
منذ البداية انطبق جدل في تصنيف ما حصل باعتباره ثورة أو انتفاضة أو مؤامرة وانقلاب والمهمّ أنّها ردّة فعل لشعب أصابه الفقر والتهميش ووطن ميّت تحوّل إلى سجن كبير وأنّ هذا كان برهانا على إمكانيّة التغيير لواقع يريده البعض كالقضاء والقدر أو كتضاريس الجغرافيا. اتّخذت الثورة شكل حراك شعبي سلمي في كلّ من تونس ومصر واليمن لتفقد تلك الخاصّية في ليبيا وسوريا أمام وحشية آلتي القمع هناك.
ربّما هي الغطرسة وجنون العظمة والجهل المركّب وغرور منفّذي عملية اغتيال خاشقجي ومن أمرهم، ما جعلهم لا يفكّرون في عواقب ما اقترفوه من حماقة طالما أنّهم يعتقدون أنّهم خارج دائرة الحساب |
نجحت الثورة التّونسية نسبيا في تحقيق بعض أهدافها وكانت الاستثناء في محيط من الفشل والانتكاسات، إذ أصابها المرض في ليبيا ودخلت في غيبوبة في مصر وانتحرت في سوريا واغتيلت في اليمن، ليحقّق معسكر الثّورة المضادّة انتصارات بالنّقاط لما تسبّبوا فيه من إرباك وفوضى ونسبها إلى الثّورة لجعل النّاس يلعنون اللّحظة الّتي فكّروا فيها في التّغيير وطمحوا إلى الحرّية والكرامة وإن يضعوا قدما على أعتاب الإنسانية، وكأنّهم يقولون لهم هذا عقاب من يجرؤ منكم، عودوا إلى إسطبلاتكم واصطفّوا في القطيع، يكفيكم أنّكم تتنفّسون وتجترّون ما يلقى إليكم من تبن أو برسيم.
أمّا عن اختيار الممثّلين السّياسيين ونقد الأجهزة الحكومية أو التعبير عن الرّأي ولو همسا فهو من المحظورات كما في بعض أشباه الدّول الّتي يعاقب فيها كلّ من لا يبدي ولاءه بما فيه الكفاية ويصدر في حقّه حكم بالقتل تعزيرا كما حدث للدكتور سلمان العودة أو قد يغتال ويقطّع جسده ويستقدم رأسه بعد أن طلبه ولي الأمر كما في حالة الشهيد جمال خاشقجي أو تعذيب حتّى الموت كما حدث للأستاذ تركي الجاسم صاحب حساب كشكول والّذي لمكتب تويتر الإقليمي بدبي مسؤولية أخلاقية لما يقع لمشتركيها.
من يستعجل في الحكم النّهائي على تلك الثّورات ربّما لا يفهم حركة عجلة التّاريخ. والّتي تنتهي بدهس من لا يفهم حركتها، فللثّورات موجات، ارتدادات، إرهاصات نكسات وقفزات في حالة حركة مستمرّة ليبقى نورها يشتعل ما دامت أسبابها مازالت قائمة ولنا في ذلك مثال الثّورة الفرنسية الّتي تطلّبت ثلاثة قرون لتحقّق بعض أهدافها، أمّا عن أكبر وأعظم ثورة إنسانية قيّمية كونيّة فكانت تلك الّتي قادها سيّدنا محمّد صلوات الله عليه وسلامه والّتي مازالت مستمرّة وستبقى كذلك إلى يوم الدّين.
كان الكاتب الصّحفي الأستاذ الشهيد بإذن الله جمال خاشقجي لا يخفي دعمه لثورات الرّبيع العربي معتبرا أنّ المعركة الحقيقية هي معركة وعي فكان نصيرا للشّعوب المستضعفة الطّامحة لنزع نير الظّلم والاستبداد، مواقفه من معتقلي الرّأي في وطنه ومن حرب اليمن ومن مجزرة رابعة ونظام السيسي الانقلابي ومن بشّار الطّاغية ومن التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب كانت واضحة جليّة وكان في ذلك واضحا حاسما ولا يقبل مساومة ممّا جعله هدفا للتّصفية من قبل نظام سعودي يسوّق على أنّه مصلح ومحدّث ومجدّد وهو يتصرّف بتوحّش أكثر ممّا لدى داعش.
تمّت تصفيّة الأستاذ خاشقجي بطريقة غادرة بشعة لا يتصوّرها عقل إنسان سليم في أبشع عمليّة اغتيال في التّاريخ، ربّما هي الغطرسة وجنون العظمة والجهل المركّب وغرور منفّذيها ومن أمرهم، ما جعلهم لا يفكّرون في عواقب ما اقترفوه من حماقة طالما أنّهم يعتقدون أنّهم خارج دائرة الحساب ولكن لعدالة السّماء، كانت النّيجة عكسية فمن فكّر في تغييبه حوّله إلى شمس تشرق كلّ يوم في كلّ مكان ولعلّ الشّهيد بانتقاله إلى الرّفيق الأعلى حقّق ما لا يمكن أن يحقّقه ولو عاش دهرا.

فما حدث منذ شهر واستمرّ إلى الآن من تفاعلات وردود أفعال تبعت عملية اغتياله لا يمكن وصفه إلاّ بالانتفاضة أو الثّورة، هي انتفاضة أخلاقية قيمية في أعلى الهرم وصفوف النّخبة وصنّاع القرار والإعلام في الأوساط الغربية كان لحكمة تركيا الفضل في جعل الضّغط مستمرّا حتّى تتحقّق العدالة ويحاسب كلّ المسؤولين الحقيقيين على جرمهم وكان لوسائل الإعلام الغربية وقناة الجزيرة دور بارز وأساسي في جعل القضيّة حيّة في الضّمير العالمي.هي عمليّة تدافع جديدة في الأعلى تماما كما كانت عمليّة التّدافع في القاعدة الّتي تبعت حرق البوعزيزي لنفسه.
ما قبل اغتيال خاشقجي لن يكون كما بعده، فابن سلمان كمشروع طاغية بعمر افتراضي نصف قرن أو أكثر قد فشل ولا يمكن له أن يستمّر على ما هو عليه فهو بين أن يتحوّل إلى دبّ بلا أظافر أو يتنحّى أو يقع التخلّص منه، فقد صار عبئا على من يدعمه وتحوّل إلى خطر وجودي يهدّد المملكة وخصوصا مصالح الغرب.
سيسقط ابن سلمان ولن تنفعه شفاعة نتنياهو أو تباكي السّيسي أو دعم الإنجيليين وصهر ترامب كوشنير الّذي قريبا سيعلن أنّه لا يعرفه تماما كما فعل محمّد بن زايد الّذي أشعل النّار ودفع السّعودية إلى الهاوية ثمّ جلس على الرّبوة يتفرّج. ستفقد الثّورة المضادّة اهمّ ضلع لها لينفخ في روح الثّورة وتنهض من جديد لتستكمل أهدافها خصوصا في مصر الّتي تعتبر محرّك القاطرة وقلبها النّابض.
إذا كان البوعزيزي سببا في اندلاع ثورات الرّبيع العربي الأوّل فانّ اغتيال خاشقجي سيكون مفجّرا لانطلاق الرّبيع العربي الثّاني وبين الرّبيع الأوّل والرّبيع الثّاني تبقى حلقة الرّبط بينهما وسرّ نجاحهما وتنزيلهما على أرض الواقع، كلمات شاعرنا الفذّ أبي القاسم الشّابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة ..فلا بدّ أن يستجيب القدر وهو التفسير الأفضل لقول الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، إذ أنّ هاتين الحادثتين أي حرق البوعزيزي لنفسه واغتيال الأستاذ جمال خاشقجي، ليسا سوى هبة ربّانية وبرهان حقيقي على أنّ التغيير ممكن غير أنّه لن يثبت أو يشمل الأفراد ما لم يقتنصوا الفرصة للبدء بتغيير أنفسهم.