شعار قسم مدونات

احذر.. ليس كل ما يلمع ذهباً!

BLOGS انستغرام

لا شيء يضاهي سعادتنا بيومنا هذا، صراخنا ونحن نتسابق في الساحة، وضحكاتنا ونحن نتقاسم مأكولاتنا، وفرحتنا لتسلمنا معدلات الفصل وعن شوقنا لبداية العطلة الصيفية وعن مخططاتنا لقضاء العطلة التي لا تتعدى حدود حينا، لنقضي أيام العطلة في اللعب في الحي مع أبناء الجيران. فلكل يوم نصيبه من الألعاب ومن الخطط، ليتخلل الأسبوع أيضاً خطط للذهاب للشاطئ وما إلى ذلك من أنشطة صيفية قد يجدها البعض مملة ولا تستلزم الذكر، فهي لا تتضمن رحلات عبر الطائرة وإجازة فاخرة.

فالروتين الصيفي بالحي يحفظه جميع أبناء الحي عن ظهر قلب، لكن عددنا كما العادة لم يكتمل بعد، فما زلنا بانتظار عودة أطفال الجيران من الغربة. فصباح اليوم استيقظنا جميعاً على صوت جر الشنط والحقائب، معلناً وصولهم، وهم تعلو على وجوههم تعابير التعب والفرحة بالعودة للاجتماع بالأهل والأحباب. كان روتين الحي مقسم على النحو التالي: نقضي اليوم بأكمله في اللعب، وبحلول المساء يتجمع بعض نسوة من الجيران في مكان واحد ليتحدثن عن مواضيعهن المشتركة، بينما منتصف الليل مخصص لشباب الحي، فهي فرصتهم لرؤية بعضهم البعض والحديث عن مستجدات الساحة وفرصة لنسيان ما يعيشونه من بطالة ومعاناة وفقر، وفرصة للتعبير عما يراودهم من أحلام وقد تربع على عرشها حلم الهجرة والهروب من الوطن، في رحلة للبحث عن إثبات الذات وتوفير فرصة للعيش الكريم.

 

كان غالباً ميتزعم الحديث ويحتكره أحد أبناء الجيران المهاجرين، كان يحدثهم كل ليلة عن الحلم الصعب المنال في نظرهم، عن العيش الكريم هناك في أرض الأحلام وعن الفرص التي تنتظرهم ما أن يطأوا أرض أوروبا، يستعرض أمامهم ما حصده من ممتلكات في وقت قصير، عن سهولة العيش هناك وعن رغبته في امتلاك العقارات هنا، بينما جلهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم لمدة شهر، يعملون طيلة اليوم بينما راتبهم لا يغطي نصف نفقاتهم، كان تعبيره ووصفه فرصة لرسم طريق نحو حلم جميل، بعيداً عن الواقع المر، فأحياناً يكون عيشك للحلم ترفاً حقيقياً تستمد منه فرحك لدقائق لتعود لواقع مر يستنزف كل ما تقدم له من طاقات ويطلب منك تضحيات مستمرة لا تنتهي.

الجميع يسعى لتسليط الضوء على ما يمتلكه من جمال بحوزته، سعياً لترك انطباع عند متابعيه بسعادته وحياته الهادئة السكينة، على أنه يعيش حياة تحيط بها لحظات السعادة والفرح من كل جانب

قرر الكثير منهم الهجرة بعدها نحو أوروبا سواءاً بطرق قانونية أو غير قانونية، منهم من اعترض القضاء والقدر طريقه وعاد جثة هامدة لأهله ومنهم من حالفه الحظ ليصل لأرض الأحلام حيث لا وجود لمصطلح المستحيل، ليصطدم بالواقع المر، الواقع البعيد كل البعد عما وصفه صديقنا في الحي. فلا مأمن لهم هنا ولا مأوى، لا وجود لمفهوم الصديق والجار هنا، لا يوجد مكان للمبيت سوى افتراشهم الأرض والتحافهم السماء، كل ما أخبرهم عنه الجار بالحي كان مجرد سراباً اختفى بمجرد أن وطئت أقدامهم أرض الأحلام.

هو إذن رغبتنا في الهروب من الواقع المعاش الذي نضطر لمواجهته صبيحة كل يوم بحثاً منا عن أرض خصبة لزراعة ما تحفل به مخيلتنا من أحلام وما يتمناه القلب من أمنيات. فعلى اختلاف الرغبة في التغيير والسعي نحوه ستجد أن تفاصيل هذه القصة قد حدثت في عدة أماكن وأزمنة مع وجود اختلاف فقط في الأشخاص وفي سير الأحداث وتسلسلها، فمحطاتنا في الحياة قد يطغى عليها بعض التشابه مع محطات الآخرين، قد تجد أنها تتشابه في أجزاء كثيرة منها إلى قصص معارفك وأصدقائك فهي أقرب ما تكون إلى أداء مسرحي قد يختلف فيه أفراد الفرقة المسرحية في أشكالهم وفي أدائهم لكن جوهر القصة المتناولة لا يختل.

فمكان التلاقي في قصتنا قد تغير ليصبح محطة افتراضية وتطبيقاً عالمياً، وصديق الحي المهاجر تم استبداله بمجموعة من المؤثرين والمؤثرات الإنستغراميين من نجوم فن وأيقونات للموضة والتجميل ومن أشخاص ناجحين، وشباب الحي ذاك الشباب الحالم المندفع أصبح في الحقيقة جمهوراً كبيراً من مختلف الشرائح العمرية ومختلف الطبقات الاجتماعية، فعلى اختلاف المنظرين إلا أن أغلبهم يحفظ عن ظهر قلب وضعك الحالي وحيث يكمن ضعفك ورغبتك في التغيير وتخطي ما تعيشه حالياً، جلهم يصور لك ترف ما يعيشه وما يمتلكه، نجاحه في الحياة وما حققه، يقدم لك حياته على أنها نعيم وجنة دنيوية لينتهي بك المطاف لتقارن ما تفقده بما يمتلكه هو، وتحتقر ما تمتلكه، وتكتئب مما تعيشه من أهوال وصعوبات.

فمن يتصفح ويتابع ما يكتب عن معدلات الاكتئاب والجرائم التي يرتكبها البعض في حق أنفسهم من تحقير ولوم وضغط، فإن أغلب المعدلات ستشعرك بهلع شديد، ليعزي أغلب الباحثين سبب شعورهم هذا إلى ما ينشره البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، وإنستغرام خصوصاً، وعن تصديقهم للكماليات والمظاهر الخداعة.

خطأ وشعور بالنقص قد نسقط فيه جميعنا وتجرنا إليه أنفسنا التي لا ترضى ولا تشبع برغم ما نقدمه لها وما نسعى لتقديمه، فأغلبنا يجهل الحقيقة التي تقف وراء منصات عديدة كالإنستغرام مثلاً، الفكرة هو أن الإنستغرام نجح في خلق إحساس بالنقص لدى مستعمليه ورغبة في خلق نمط معيشي موحد لدى الجميع، نجح في خلق إنسان مستهلك لكل ما يعرض عليه من مظاهر، فكرة أن الإنستغرام أصبح منصة للترويج والماركتينج، لتسليط الضوء وبكثافة على ما نمتلكه لنغطي الجانب السيء منا والجانب السلبي من شخصيتنا، وأوهمنا بالرغبة في مشاركة تفاصيل حياتنا مع العلن.

اعط لنفسك حق الراحة من المظاهر الخادعة الإنستغرامية، وعد إلى عالمك الحقيقي لتعيشه بكل تفاصيله، لا تجعل نفسك ضحية لنظام استهلاكي بحث، وأعط لنفسك حق الحزن والفرح بعيداً عن العالم الافتراضي
اعط لنفسك حق الراحة من المظاهر الخادعة الإنستغرامية، وعد إلى عالمك الحقيقي لتعيشه بكل تفاصيله، لا تجعل نفسك ضحية لنظام استهلاكي بحث، وأعط لنفسك حق الحزن والفرح بعيداً عن العالم الافتراضي
 

فكل ما يقوم به الشخص الذي تتابعه من جهد لتجهيز خلفية الصور، وتنسيق الألوان والملابس، ومن شموع مضاءة، وكؤوس قهوة صباحية، ومن ورود وكتب، ومن سفر، ومشتريات وماركات عالمية ما هو إلى جانب وجزء لا يتجزأ من حياته، الجانب الجميل منها. فالجميع يسعى لتسليط الضوء على ما يمتلكه من جمال بحوزته، سعياً لترك انطباع عند متابعيه بسعادته وحياته الهادئة السكينة، على أنه يعيش حياة تحيط بها لحظات السعادة والفرح من كل جانب، وعلى أنك أنت فقط من كان نصيبه لحظات من التوتر والحزن وهم وغم يعترض طريقك وفشل في التخطيط لأهدافك وفشل أكبر في تحقيقها وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب عند البعض.

فما نغفل عنه أكثرنا هو أنه لاوجود لمفهوم السعادة والسكينة المطلقة في حياتنا ولا وجود لمفهوم الحياة الهنيئة التي حرص التلفزيون والثقافة على ترسيخها في عقولنا وقام المؤثرون بتثبيتها، فالمشاكل والصراعات ولحظات الفشل والاكتئاب والبكاء والانعزال هي محطات طبيعية في حياتنا، لا يمكن لنا أن نتخلص منها مهما حاولنا، لا يمكن أن نحس بحلاوة ما امتلكناه حتى نعاني من فقدانه ومن الفشل المتكرر في الوصول إليه، فأعط لكل محطة حقها في حياتك، أشفق على نفسك وارحمها، فلو تعلم الجانب السيء الذي يخفيه البعض من مشاهير الإنستغرام، لتسمرت رعباً من سماعه.

فالنظام الرأسمالي نجح في ربط مفهوم السعادة بالتسوق وعرض المشتريات مع الآخرين، على أن السعادة هي تصويرك لطبق الحليب وحبوب القمح إضافة إلى بعض قطع التوت والفراولة، على أن السعادة هي أن تقضي شهر العسل في جزر المالديف، وبورا وبورا، وأن ما دون ذلك لا يستحق عناء الذكر. اعلم أن الحياة مراحل، مرحلة يسر ومرحلة عسر، مرحلة نجاح ومرحلة فشل، مرحلة فرح ومرحلة حزن، فلا يمكن لمشوارك أن يكتمل دون مرورك على المحطات جميعها واختبارك لتفاصيلها واستفادتك من دروسها. أعط لنفسك حق الراحة من المظاهر الخادعة الإنستغرامية، وعد إلى عالمك الحقيقي لتعيشه بكل تفاصيله، لا تجعل نفسك ضحية لنظام استهلاكي بحث، وأعط لنفسك حق الحزن والفرح بعيداً عن العالم الافتراضي، وتذكر دائماً أنه ليس كل ما يلمع ذهباً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.