تاريخ المسلمين حافل بالجدال في قضايا منهجية واعتقادية متعلقة بفهم القرآن، في صفات الله، والقضاء والقدر، والبعث، والحساب، وفيصل التفرقة بين الكفر والإيمان والزندقة، وعصمة الانبياء، والعدل الإلهي، والرحمة والعذاب، ومنزلة العقل، وتفاصيل الشعائر التعبدية: صفة الصلاة، ومواقيتها الصلاة، وأحكام الصوم والحج والزكاة، الخ.
ومع ذلك، يشعر المسلمون في عصرنا بالانزعاج لنشأة خلافات جديدة ومستحدثة، بخصوص الميراث، والشهر النسيء في حساب التواريخ الهجرية، إلخ. وآخر حلقات هذا الانزعاج يتمثل في الجدل التونسي حول الميراث، والذي يكاد يتحول إلى جدلٍ حول الإسلام والإيمان والكفر والهوية الدينية، وتستعمل فيه مفردات "الثوابت" و"المرجعيات" (وهما مرادفان لمصطلح "المعلوم من الدين بالضرورة")، و"محاربة الله"، و"المس من المقدسات"، إلخ. من المفردات المستعملة من قبل من يريدون ألا تزول شعيرة يرون فضلها، أو يتمسـكون بعادة اجتماعية يعتقدون بأنهم قيّمون على بقائها. ولو كان موضوع "الثوابت الدينية" بهذه السهولة وهذا التبسيط، لما وُجِد في تاربخ المسلمين كلّ هذا التنوع المذهبي والعقائدي، ولما وُجِد أصلا ما يسمّى بـ "علم الفرق والملل والنحل".
في الجدل الديني، لا يصبح الموضوع قطعيا أو واضحا حين يحدث حوله جدل علمي قائم على مبررات مقاصدية، أو مبررات تنطلق من فهم النصوص ذاتها، أو مبررات تنطلق من الواقع المغاير.. وقناعة الفرد أو الفقيه إنما هي مبنية على "اعتقادٍ" بِكَوْنِ النص قطعيا وواضحا، وليس على كونه قطعيا وواضحا بالفعل. وهذا هو جوهر الجدل: فالبعض ينطلق من "اعتقاد" شخصي ناتجٍ عن تبنيه لفهمٍ ما للنص الديني، ثم يحوّل موقفه "الذاتي" إلى قضية "موضوعية" بديهية، بالقول "إن النص واضح وقطعي"، وحين يرى مخالفين ينطلقون من نفس النصوص للوصول لنتائج مغايرة، يعمد لحرمانهم من حقّ فهم النص بشكل مختلف، وهو ما يتناقض جوهريا مع مفهوم "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".. و"أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ".
في ظل هذا الجدل، أميل للقول بأن كثيرا من الأحكام القرآنية لم تأت قاطعةً لكل زمان ومكان، وإنما جاءت بتدرّجٍ واضح يؤكّد أن الغاية هي تعليم الناس منهجية التكيّف مع الواقع. فالتدرّج في الأحكام مؤشر على أنه لتعليم الناس أدواتِ التفكّر والنظر لتكييف الأحكام حسب الظروف الاجتماعية الطارئة. بما يعني أن كثيرا من الأحكام إنما هي بمثابة نماذج عملية ودروس تطبيقية للاقتداء بها، وليس للتقيد بها، من أجل تعلم كيفية إدارة وسياسة المجتمع وتغيراته. وأميل للقول بأن الميراث يندرج ضمن هذا النوع.
بقي حظُّ الأنثى يراعي كونها لا تنفق على نفسها، وإنما الرجل هو الذي ينفق عليها. وإذا تغير الواقع الاجتماعي، فلا حرج من التكيف معه مع المحافظة على المقصد القرآني في المواريث |
كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان، ويقولون: (لا يُعطى إلا من لاقى الحروب، وقاتل العدو، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة). فجاء القرآن حاسما في خطأ هذا العرف، غير أنه اختار أسلوب التدرج في تحقيق العدالة الاجتماعية، بدل إنزال حكمٍ قاطعٍ من أول وهلة.
ففي بداية الإسلام، كان أساس الميراث هو الحِلف والنصرة، حتى مع اختلاف الدِّين. ولذلك دخل مع الأهل من كان له مُوالاةٌ، حيث كان الرجل يقول للآخر: (أنت وليِّي، ترثني وأرثك). وجاء فيه قوله تعالى: "ولكلٍّ جَعَلْنَا مَوالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ" (النساء). ثم نُسخ الحكم، فكان بالإسلام والهجرة: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا" (الأنفال). فانقطعت الولايةُ بين المؤمن المهاجر وغيره، ممّن لم يُؤمن، أو آمن ولم يهاجر. ثم نُسخ ذلك فجُعِلَت الولايةُ للأقرب: "وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ" (الأنفال).
وفي البداية، لم يكن للتوارث نظام مُقَدَّر، فتُرِك للرجل (وحتى بضع سنواتٍ بعد الهجرة) أن يُوزّع ماله قبل موته كما يشاء: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتقِينَ" (البقرة). لكنهم كانوا يخصّون بعضًا دون بعض، فيخصّون الرجال دون النساء.. فنزلت الآية: "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْه أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا" (النساء).
ولم يبيِّن القرآن نصيب كل وارث، إلا بعد فترة حين نزلت الآيات ن سورة النساء: "يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ.."، "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ.."، "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ..". فبيَّنت نصيب الأصول والفروع، ثم الزوجين، ثم الإخوة والأخوات. وفي أسباب النزول أنّ أوْس بن ثابت توفي وترك امرأته وثلاث بنات، فقام وصيّان من الرجال، هما ابنا عمّه قتادة وعرفجة، فأخذا المال وحدهما، فشكت الأمُّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الفضيخ، فبرّرا عدم إعطائها بالقول: (إن أولادها لا يركبن فرسًا، ولا يحملن كَلًّا، ولا يُنكين عدواً). فنزلت الآية: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" (النساء)، حاسمةً في حق البنات، ومتفهمّة واقعيّا لكون الرجال يحتاجون لنصيب أكبر، بحكم الجهد والبلاء والمخاطرة والدور الاجتماعي وإعالة الأسرة.
هذا التدرج يؤكد أن أحكام الميراث تتكيف مع البيئة والظروف الاجتماعية، بما يحقق العدل. وبقي حظُّ الأنثى يراعي كونها لا تنفق على نفسها، وإنما الرجل هو الذي ينفق عليها. وإذا تغير الواقع الاجتماعي، فلا حرج من التكيف معه مع المحافظة على المقصد القرآني في المواريث، وهو حفظ الحقوق وإقامة العدل.
من أهم حجج المتمسكين بتطبيق الفقه التقليدي في أحكام الميراث، حجة القوامة المالية للرجل، باعتبار أن الرجل هو الذي تجب عليه النفقة وأن المرأة لا تجب عليها النفقة، وإذا عملت بأجر فلها أن تحتفظ بمالها لنفسها. والسؤال المطروح هو: هل ما زال الواقع المعاصر يسمح للزوج بدخلٍ شهري يلبي لوحده حاجيات الأسرة؟ وهل توجد زوجة تعمل الآن مع زوجها الموظف البسيط، ولا تشاركه في الإنفاق؟
فالفقه إنما هو موجود ليطرح حلولا لواقع اجتماعي راهن، وليس للتنظير على أساس واقع اجتماعي ساد لقرون مضت. والفقه التقليدي القديم بُنِي على أساس نمط اجتماعي واقتصادي يقوم على عمل الرجل وقدرته على إعالة اسرته (بل عدّة أسر إن أخذنا بعين الاعتبار تعدد الزوجات)، وعلى بقاء المرأة في البيت. بينما نعيش الآن في نمط حياة رأسمالي، ومجتمع استهلاكي صارخ، يتربّح فيه صاحب رأس المال من خلال تشغيل المئات أو الآلاف بسلّم أجور ضعيف جدا، لا يكفي في الغالب لإعالة أسرة كاملة، مما يضطر المرأة للخروج هي أيضا للعمل. فعصرنا لم يعد قائما على تفرّغ الرجل للعمل خارج البيت، وتفرّغ المرأة بالبيت، ولم يعد الرجل ينفق وحده على الأسرة، وإنما حتى المرأة تشاركه الإنفاق.
توجد أربع مقاربات تدعو لإعادة النظر في المواريث، كلّها في اعتقادي مشروعةٌ ويمكن الجدل العلمي الهادئ حولها، دون تخوين أو تحقير أو تكفير أو تضليل، طالما أنها ترمي لهدف واحد هو تحقيق العدالة الاجتماعية في وضع ٍاجتماعي معاصرٍ يرى كثيرون أن الفقه التقليدي للمواريث لا يأخذها بعين الاعتبار:
– مقاربة أولى قرآنية، ترى أنّ الوصية في القرآن هي الأصلُ وأنّ آيات الميراث فرعٌ عنه لمن مات ولم يكتب وصية.
– مقاربة ثانية قرآنية، ترى أن الفهم اللغوي والمنطقي لآية الميراث وخصوصا لآية (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) تحمل معانيَ لغويةً صحيحة يمكنها أن تؤدي لإعادة النظر في النسب المشهورة تقليديا.. وهذه مقاربة محمد شحرور.
– مقاربة ثالثة أصولية مقاصدية، ترى أنّ أحكام المواريث يُنظَر فيها للمقاصد الاجتماعية، وأنّ آيات المواريث جاءت لتصحيح وضعٍ اجتماعي جاهلي كان يَحرِم المرأة من الميراث، وجاءت المواريث لعلاج حالات اجتماعية واقعية في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم- في مجتمع المدينة، والأصلُ أن يجتهد الفقهاء حين تتغير أحوال المجتمع. وهذه المقاربة يدعو لها طارق رمضان السويسري، وأبو حفص المغربي.
– مقاربة مدنية سياسية، في إطار دولة المواطنة المعاصرة، ترى أن الوضع الجديد الذي خلقه مفهوم المساواة في المواطنة، للمسلمين وغير المسلمين (أو لنقل: غير الراغبين في الخضوع للأحكام القرآنية) يستوجب وضع إطار عام يستوعب الجميع.. وهذه مقاربة سياسية مدنيةـ تخضع للجدل والتدافع السياسي الديموقراطي، ودورُ الطبقة السياسية أن تجد الإطارَ العام الذي يمثل مشتركا عاما بين المواطنين، بدون فرض أو إجبار.
هذه المقاربات تفترض عدم الحرج في إعادة النظر في أحكام المواريث وتكييفها بحيث يمكن المساواة بين المرأة والرجل في الميراث. والنظام الرأسمالي المعاصر يفرض على الفقهاء الاجتهاد وإعادة النظر في كثير من المسلّمات الفقهية، من باب تكييفها مع الواقع الاضطراري. والله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.