شعار قسم مدونات

القلبُ مَسكنُ العَقل!

blogs تأمل

قالَ الله تَعالى فِي سورَة الحَج، آيَة رقَم (46) "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا"، وَقيلَ لابنِ عَباس، بِماذا نلتَ العلمِ، قالَ: بِلسانِ سَؤول وَقلبِ عَقول، خَلق الله الإنسَان وَميزهُ بالعَقل الذي به يُدرك مُحدثات وحَقائق الأشيَاء، وَأكرَمهُ بَأن جَعلهُ عَاقلاً مفكّراً، فالعقلُ هوَ القُوة التي تُساعدهُ عَلى استنباطِ التَرابطَات وَحلّ المُشكلات بِصورة عَقلانيّة، وَأنعمَ عَليه بقَلب ينبضُ بين ضُلوعه ليقيمَ شَعائر الحَياة.

العَقل والقَلب مُتضادان مُتكاملان، فالعقلُ امتازَ بالصَلابة والقُوة، إذ يرتكزُ دَائماً على المنطقِ والاستِدلال، ويحكُم في مُختلف القَضايا وفقَ مَعايير جَازمة، بينمَا اختصَّ القَلب باللينِ واليُسر، وَكلاهمَا لا غِنى للإنسَانِ وبنائهِ الروحِي عَنهما، فصلابةُ العَقل تلطفُها رقّة القَلب، ولِين القَلب يُهذبه تَدبير العَقل. يَعيشُ الإنسَان في حَياته بِمحركات مِن مُقتضى حِكمته وفَيض مشاعره، أي أن عَقله وقَلبه هُما اللّذان يُحددان سُلوكه ويستَأثران في طبَيعةِ مَساره وَفعالياته. قَد يَختلف العَقل عَن القَلب تبِعاً لانقسَامه الذاتيّ وَمن ثُم الخَارجي، حيثُ أنَّ المُتعارف عَليه بأنَّ العَقل يرتبطُ بالمَاديات والعَاطفة بالمَشاعر.

وفيمَا يَتعلق بمشَاعر الحُب وَالتَقدير؛ فَلابدّ من استخدَام العَقل أولاً للاقتناعِ بالفكرَة والهَدف، بمعنى أنَّ القَلبَ يحتاجُ إلى ما يَستوثقه بأنَّ الشَخص الذي حازَ عَلى مَشاعر الإعجَاب والاهتمَام يَستحقُ ذلك، وإذا كانَ العَقل هوَ وقودُ العِلم والمَعرفة؛ فإنَّ القَلب هوَ صُندوق المَشاعر لسَكينة الإنسَان ولصَالح استِقراره النَفسي والفِكري والمَادي، وَقيلَ ضَع قَليلاً مِن قلبكَ عَلى عَقلكَ فَيلين، وَضع قليلاً مِن عَقلكَ عَلى قلبكَ فيستقيم.

جَعل الله محَل العَقل في القَلب، وهَذا يُدلل لنا أنَّ القَلب هُو مَحل الإدرَاك والتَمييز، وأنَّ بصَلاحه يَصلح البَدن، ويُصحصح الحَقَّ ويَظهر، وبِسَوادها يظلمُ الإنسَان وَيجهَل

التَفضيلُ بينَ اختيارات العَقل والقَلب قد يكونُ مُتعذراً في كَثير منَ الأحيَان، ويزدادُ الطينُ بلّة إذا كَانت المَواقف تَستدعي إفتاءً في التوّ واللَحظة، فقد يَكون هُناك أشخَاص نِظامهم الفِكريّ يَطفحُ عَلى نِظامهم العَاطفيّ، وَآخرينَ نظامهم العَاطفي يَطفح عَلى الفكري، وَهذا هُو جَوهر الفِرق بين الفِكريينَ والعَاطفيينَ، إلا أن هُناك تَداخل كَبير في أعمَال القَلب والعَقل، وإن كانَ التَفاوت كبير بينهُما، فكلّ منهمَا يكمّل الآخَر، فالعَقل يختارُ ويُدرك المَوقف، فهو مَناط التَكليف، ثمّ يُقدم الدَليل، فَيستفتي القَلب، فيَقوم القَلب بالنظَر إليهَ من زاويتهِ الخَاصّة، ثمّ بَعد ذلكَ تَصدر الأحكَام قولاً وفعلاً.

إنّ أسلوبَ الجَمع التناغُمي والانسجَام بينَ العَقل والقَلب، وقِيام القَلب والعَقل بتأديةِ وَظائفهما مَعاً في آن واحِد، وَعدمِ الاستِسلامِ لأحدهمَا بطابِع الأنَانية، والانجرَاف لأهواءٍ ذَاتية مُفتقرة الرُوح الإنسانيّة، يَجعل من حياتنا صُورة مُتكاملة بطريقةٍ مُتوازنة، ويَضمنُ لنا السَير نَحو الطَريق السَديد بَعيداً عَن المُؤثرات الخَارجية. لَقد عُني الإسلامُ في بناءِ المُوازنة في الحَياة بينَ العَقل والقَلب، وقَد ظهرَ ذلكَ في وَصف الله تَباركك وتعالى المُؤمنين في سُورة الفَتح، آيةِ رقم (29)، قَال الله تعالى في كتابهِ العَزيز الكَريم: "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"، وهذهِ مِن صِفات الأضدَاد، أن يكونَ المُؤمن شَديداً عَنيفاً عَلى الكُفار، رَحيماً بالأخيَار، فالأولَى من العَقل والثَانية منَ القَلب. استوقَفتني أيضاً آية رقم (90) من سُورة النَحل، قَال الله تعالى في كتابهِ العزيز الكريم: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ"، جَاء الأمرُ الإلهيّ جَلياً في التوازنِ والتوافقِ بينَ العَدل والإحسَان، فالعَدل هُو المِيزان العَقلي ومُقتضَى الحكمَة، والإحسَان هوَ الرَحمَة القَلبية وفَيض العَاطفة.

جَعل الله محَل العَقل في القَلب، وهَذا يُدلل لنا أنَّ القَلب هُو مَحل الإدرَاك والتَمييز، وأنَّ بصَلاحه يَصلح البَدن، ويُصحصح الحَقَّ ويَظهر، وبِسَوادها يظلمُ الإنسَان وَيجهَل، فقَلبُ الإنسَان له دَورٌ في التَعقّل والإدرَاك والمَنطق، ولبياضِه دَور في نجاةِ الإنسَان مِن الشَهوات والشُبهات، والوُصول بالطَاعات إلى أعَلى الجَنات، وجَعل الله تعالى أيضاً العَقل الذي يَميز بينَ الحَق والبَاطل، وبينَ المَعروف والمُنكر، وبينَ الخَير والشَر، في القَلب.. النَبضُ عليكَ بالمُحافظَة عَلى نَقاءِ قَلبك وَصفَاء عَقلك، وابتغِ مِن حُسن عَقلك، يَقظة قَلبك، فالسَعادة مَناطها السَير بعقلٍ يتدبّر، وَقلبٍ يتصوّر.. "العَقلُ يُنذرنَا بِما يَنبغي تَجنبَه، والقَلب يَقول لنَا مَا يَنبغِي فعلهُ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.