شعار قسم مدونات

كيف تقيِّم العقلية الإسرائيلية الميل العربي نحوها؟

blogs نتنياهو

بعد أن دجّن اليهود العرب ووضعوهم في أقفاص، كلٌ حسب وظيفته المحددة، ها هم يلتفتون أخيرا كما يبدو إلى فلسطين، كنا نظن طوال تلك العقود أن مبلغ نظرهم هو حدود فلسطين السايسبيكية، غير أن فلسطين لم تعدو بالنسبة لهم كونها موطئ قدم لا أكثر، وهم يدركون تماما اليوم كما ندرك نحن، أن هذا الموطئ كان أسوأ اختيار. كنا نظن أيضا أن القضية الأولى بالنسبة لدولة الكيان هي أرض فلسطين ومقدساتها والعقل الفلسطيني، وكنا نظن أن مصطلح الصراع العربي الصهيوني ساحته هناك على أرض فلسطين، حتى تبين لنا أن اليهود كانوا يعملون طويلا على الوصول إلى مفتاح بوصلة العقول العربية واللعب بها، والتي كانت تعتبرها دولة الكيان قضيتها الأولى منذ إعلان تأسيسها سنة 48 من القرن الفائت.

لكن بالفعل راهن أيضا قادة الحرب والسياسة الصهاينة على العقل الفلسطيني طويلا، منذ سبعون عاما، جنبا إلى جنب مع رهانهم على باقي العقول العربية، وها هم يُصدمون للتو حين يواجهون الفلسطينيين الذين ولدوا في الألفينات، يواجهونهم اليوم على ساحة المعركة وداخل المعتقلات، وعلى الحواجز وخلال المظاهرات ومظاهرات العودة الغزية، ليكتشفوا أنهم خسروا الحرب ضد الذاكرة الفلسطينية خسرانا عظيما، لذلك عاد العقل العربي الرسمي للتو أيضا من جديد كما كان قبل سبعين سنة، حين قال عنه الصحفي الصهيوني "إيدي كوهين" عاد ليحاول غسل أدمغة الفلسطينيين والعرب من جديد، مع فارق بسيط وهو العلنية المفرطة هذه المرة في الدعوة للحضن اليهودي هناك في دولة الكيان الصهيوني.

مخ الكيان الصهيوني اليهودي اليوم يدرك تماما فشل تلك العلنية بالتأثير على الذاكرة الفلسطينية، بل والعربية أيضا، فالحرب التي شُنت طوال السبعون سنة الماضية، لم تجدي أي نفع بالمرة، وما تلك العلنية الغريبة علينا التي نراها اليوم إلا ورقة أخيرة، الظاهر للجميع داخل دولة الكيان وباقي الأنظمة المحيطة بها أنها محروقة، إلا إذا حصل الفرد الفلسطيني على أضعاف ما كان يحلم به أي زعيم عربي حارب سبعين سنة لأجل نظامه وبقاء سلطة عائلته، وهذا غير منطقي، بعض القادة اليهود داخل دولة الكيان باتوا يدركون ذلك الآن مثل وزيرة العدل المتطرفة في دولة الاحتلال، إياليت شاكيد، التي اعتبرت بأن الخطة الأمريكية للسلام الفلسطيني-الإسرائيلي والتي يطلق عليها، صفقة القرن، هي مضيعة للوقت.

 

كانت صدمة اليهود تجاه الرد-الردع الفلسطيني الغزيّ على العملية الاستخباراتية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة الفاشلة في غزة لخطف القيادي في حركة الجهاد "نور بركة" كانت صدمة هائلة

وقبلها بأسابيع حين صرح رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، قبل زيارته الأخيرة المنقطعة إلى فرنسا، بأن حكومته تسعى لتعزيز سبل التهدئة والسلام مع غزة حماس، ما هذا التحول في عقل نتنياهو المتطرف المجرم؟ لقد عارض الشعب اليهودي داخل دولة الكيان الهدنة ووقف إطلاق النار غير المشروط اللتان أعلنهما نتنياهو عقب العملية الفاشلة، مدركاً نتنياهو حينها أن التطرف والإجرام الذي لطالما سوَّق في السابق القادة الصهاينة في الانتخابات إلى الناخبين، لم يعد هو الحل السحري، فهم يتطلعون اليوم لتسويق أنفسهم كقادة يهود يجب أن يثق بهم المواطن العربي كشريك لسلام مفترض تماشيا مع سياسة العلنية في العلاقات الرسمية العربية مع دولة الاحتلال، التي يَظهر الآن أنها لم تعد تكفي رغم إقرارها منذ الربيع العربي.

لذلك كانت صدمة اليهود تجاه الرد-الردع الفلسطيني الغزيّ على العملية الاستخباراتية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة الفاشلة في غزة لخطف القيادي في حركة الجهاد "نور بركة" كانت صدمة هائلة بعد هذا الشوط الكبير من العلنية الرسمية العربية للتوق للحضن الصهيوني وهم يشاهدون التفاعل العربي العريض الذي امتد من المحيط إلى الخليج، كانت صدمة هائلة وقوية الأثر على اليهود الأمر الذي دفع وزير الحرب في دولة الاحتلال "أفيغدور ليبرمان" إلى الاستقالة، تلك الاستقالة التي أُشيع أنها كانت عبارة عن دعوة لإجراء انتخابات مبكرة.

 

والحقيقة أنها أزمة تُعبّر عن شرخ كبير بات يضرب في عميق بناء المجتمع اليهودي داخل دولة الكيان المترنحة بعد سبعين سنة من الاحتلال، كانت تلك التصرفات اليهودية معبّرة جدا وعاطفية تجاه الصدمة من هذا الفشل في تحويل العقل العربي الشعبي عن القضية الأولى تماما كما هو حال الجانب الرسمي، رغم مئات آلاف تغريدات الذباب الإلكتروني العربي التي تدفع تجاه قبول دولة الكيان بيننا كعرب ودعم التطبيع ومقت الفلسطينيين وقضيتهم، والذي تَبَين أن هذا الذباب لا يعدو كونه ذباب قذر قمئ لا يعيش طويلا، معروف لدينا وحتى لدى اليهود أنه لا يجتمع إلا على القذارة.

لكن رغم ذلك فَنَفَس اليهود الصهاينة داخل كيانهم طويل، وسيظلوا يراهنون على العلنية العربية التي يعتقدون بأنها ستزيد من الإحباط بين الشباب العربي وستنخر جسم الكيان الفلسطيني التاريخي في النهاية، لكن هناك أمثلة شاهدة على الفشل الذي بات يدركه الجميع، الآن يسأل اليهود أنفسهم، من نحن، هل نحن نازيون بعد هذه السبعين سنة وأكثر؟ كما قال الكاتب اليهودي "إسحاق ليئور" في مقال له في صحيفة هآرتس العبرية قبل أيام، حين يتحول نتنياهو إلى حشرة فإن الشعب الذي يحبه يمر بالتحول نفسه ويصبح حشرات، وحين استيقظ نتنياهو ذات صباح من أحلامه الوردية ليكتشف أنه تحول إلى حشرة كبيرة "حشرة إسرائيل" ولم يشأ أن ينهض من فراشه قبل أن ترتاح نفسه ويرى كل من حوله وقد تحولوا إلى حشرات واستفاقوا أخيرا. وفي الليل اتصل رئيس الأركان ببيبي وقال له: أنا مستقيل، يا بيبي، عندما استيقظتُ في الصباح من أحلامي الوردية اكتشفتُ أنني تحولتُ إلى حشرة كبيرة، بيبي هدأه وقال له، صديقي: هكذا يأتي الخلاص، ورئيس الشاباك أيضا اتصل وقال أنه يجب أن يستقيل، بيبي سأله: كم رِجْلاً لك؟ في أعقاب ذلك الشعب كله مر بتحول وزحف في أعقاب بيبي رئيس الحكومة، لقد كان كافْكَا مُبالِغاً ليَحِل السلام علينا.

السؤال الحاضر اليوم أعزائي، هل ينجح العرب في هزيمة الذاكرة الفلسطينية التي فشل في هزيمتها اليهود طوال سبعون سنة من الاحتلال، من خلال انفتاحهم ونهمهم نحو إقامة علاقات مع دولة الاحتلال، من خلال الذباب الإلكتروني؟ في الحقيقة الجواب يعلمه جيدا كلاً من ليئور، وشاكيد، ونتنياهو، وليبرمان، ويعلمه شعبهم الذي قَبِل أن يتحول إلى حشرات، وأعتقد أنه يعلمه أنتم أيضا أعزائي إذا لم تتحولوا إلى حشرات بعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.