شعار قسم مدونات

عيشة "الذباب" بالمغرب.. إما أن تموت أو تعيش مذلولا!

blogs المغرب

مؤخراً بالمغرب، انحرف قطار عن سكته ليُخلف حادثاً مأساوياً حَصد أرواحاَ وخلف أعطابا جسدية ونفسية مهولة لدى الذين نجوا من الموت. حلت الكارثة، وانضافت فاجعة جديدة إلى سجل أسود دونت فيه سابقاتها، لتغني قائمة نكهات الموت التي ما فتئت تتشكل وتتعدد في "زين البلدان".

حوادث جَمة تتابعت، شملت الموت حرقاً لترجمة الإحساس بالغبن، تدافعاً من أجل حفنة طحين.. غرقاً على إثر محاولة الهروب إلى الضفة المقابلة.. قتلاً نتيجة التسيب وغياب الأمن.. انتحارا للتعبير عن السخط.. إهمالاً في المستشفيات أو الشوارع.. سقوطاً من مباني أو اختناقاً في مناجم.. طحناً أو ضرباً. على إثر حوادث أو بسبب الاستهتار.. في البر أو في البحر.. بشكل فرداني أو جماعي.. اختلفت في ظاهرها وتشابهت على عديد من المستويات، حتى أنها أصبحت كمسلسل تتكرر أطواره بشكل منهجي لا يتغير. 

التعامل مع ضحايا مُختَلف الأحداث يوشك أن يكون بنفس البرودة لولا أنه يتم إكرامهم بدفن أجسادهم، ليبدو وكأنهم يصبحون أكثر أهمية بصفتهم جثثاً أكثر منه أشخاصاً على قيد الحياة.

 
بين الفينة والأخرى، يحدث شيء فظيع ويهز الرأي العام، يخلق ضجة تكسر روتين الحياة اليومية ورتابتها، تصدم الناس وتغضبهم فيعبرون عن احتجاجهم ولو باحتشام، يوجهون الاتهامات ويطرحون التساؤلات ويسخرون من الوقائع. وفي ظل التصعيد، يحدث أحياناً أن تتجاوب جهات "مسؤولة" ليتم التوعد بفتح تحقيقات في القضايا المعنية، لا تعرف نتائجها أبداً فتُطمس وتُنسى. ينسى "المسؤولون" وينسى الشعب، فيُدفن الناس وتُدفن التحقيقات وتدفن المطالب. بعد ذلك تحصل أحداث جديدة، تتغير معها الظروف والشخصيات وتتبدل المشاهد لكن المآل المأساوي لا يتغير والنهايات الدرامية تبقى هي نفسها، غضب وصدمة وتعاطف وتنديد وتصريحات وتحقيقات معلقة ثم تقبل وتعود ونسيان، فواقعة جديدة وهكذا دواليك.

حياة أشبه بعيشة ذبابة؛ ليس فقط لأن الشعب ذو ذاكرة قصيرة جداً تشبه التي تملكها الذبابة، تجعله ينسى بسرعة ويخوض نفس التجارب ويكرر نفس ردود الأفعال وينهج نفس الأساليب ويسقط في نفس الفخاخ.. بل أكثر من ذلك، لكونه يشبه الذبابة في سلوكها النضالي، وهو يحاول جاهداً الحفاظ على بقاءه، بشكل عبثي أحياناً ومن أجل اللاشيء، بلا غاية سامية ولا طموحات، بصفته كائناً صغيراً ضعيفاً، يقتات على البقايا، لا يطلب الكثير ويسهل إشباع حاجاته. والذباب أنواع، والشعب طبقات، لكل منها ميزاته وفضاءاته؛ فليس كل الذباب بنفس درجة الحقارة، وهذا وجه شبه آخر.

أما الوجه الأسوأ لهذا التشبيه، فهو المتعلق بكون الذبابة، على اختلاف أنواعها، وفي نهاية المطاف، تبقى مجرد حشرة حقيرة، لا يعني موتها شيئاً، لا نبكي فقدانها ولا نُقيم حداداً على رحيلها. والتعامل مع ضحايا مُختَلف الأحداث يوشك أن يكون بنفس البرودة لولا أنه يتم إكرامهم بدفن أجسادهم، ليبدو وكأنهم يصبحون أكثر أهمية بصفتهم جثثاً أكثر منه أشخاصاً على قيد الحياة. إن روح الانسان مقدسة، والمفترض أن موت كل فرد هو مصيبة، تستوجب أن تقام عليها الدنيا ولا تقعد إن هي أزهقت بالخطأ وذهبت سداً، فما بالك أن تعلق الأمر بالتهاون أو الإهمال أو التعمد، أو ارتبط الأمر بمأساة حملت معها الأرواح بالجملة، أما واقع الحال، فمختلف ومؤسف حقاً.

أن يشهد الوطن رحيل أبناءه بأشكال مأساوية دون أن يُحدث ذلك فرقاً، يسقطون ببساطة كذباب تهاوى بعد تلقيه ضربات خفيفة أو ارتطم بشيء وهو يحاول البحث عن منفذ للهرب. قبل أن نتحدث عن الموت حتى، فإن مجرد الإحساس بأن حياتهم تشبه إلى حد كبير حياة الذباب لهو شيء مخز؛ وهم الذين خرجوا مؤخراً للشوارع يهتفون بجموح "الموت ولا المذلة"؛ شعار لا يليق بعيشة الذباب الذي يعيش بمذلة، قبل أن يموت.. لا خيار له في الموضوع ولا قوة له على تغييره.

إلا أن هناك جانباً إيجابياً في تصورنا للشعب كذباب ولا يجب إغفاله، يتجلى في الضرر الذي يمكن لذبابة صغيرة إلحاقه، إن هي استمرت في الدوران حول هدفها، بلا كلل ولا ملل، تلوث المكان الذي تتواجد فيه وتحمل إليه بعض القذارة لتجعله يبدو مقززاً. تحوم هنا وهناك.. تلعق هذا وذاك.. تطن وتطن دون توقف، وهذا يعني أنه لو كان حتمياً أن يعيش الشعب كالذباب، فله أن يختار على الأقل، أن يلتصق بحائط في صمت منتظراً نهايته، أو أن يكون ذباباً مزعجاً، شجاعة منه أو غباء لا أدري، المهم أنه يترك أثراً قبل الموت، ويأخذ موقفاً بعد المذلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.