شعار قسم مدونات

ما الذي جعل بوتين قيصرا ومرشدا أعلى لروسيا؟

BLOGS بوتين روسيا

في بداية عام 2000، أعلن فلاديمير بوتين رسمياً "أنا أعارض استعادة أي نوع من إيديولوجية الدولة الرسمية في روسيا" روسيا في منعطف الألفية. بعد تنازل يلتسين عن الرئاسة في مطلع عام 2000، ومنذ تسلمه السلطة بدا فلاديمير بوتين سياسيًا براغماتيًا غير عدائيا لا يحمل أي أديولوجية تحدد معالم سياسة روسيا داخليا وخارجيا. معلنا تقربه من الغرب وفق سياسة يلتسين السابقة التي جعلت من روسيا تابعة للغرب نتيجة الصدمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي خلفها سقوط الاتحاد السوفيتي ومع ذلك، ما الذي دفع بوتين بعدها للاصطدام بالغرب، بعد أن كانت فترة ولايته الأولى من عام 2000 إلى عام 2004 براغماتية تهدف إلى مساعدة روسيا في تلبية "المعايير" الغربية والتقرب من أوروبا.

 

لكن بعد عام 2004، أصبح خطاب الرئيس أكثر شدة. فقد أصبحت أفعاله وتصريحاته بتقادم الزمن مدفوعة بالأيديولوجية المعادية للغرب التي تغذت من أطروحات بعض الفلاسفة المحافظين في روسيا. هل اضطرته الظروف الإقليمية والدولية إلى قيادة روسيا بنمط ممزوج بالقيصرية والستالينية لمواجهة خطط الغرب في احتواء روسيا مرة أخرى؟ كان هدفه الأول إعادة الاستقرار لبلده المتأثر بشكل خطير بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية واستئصال جروح سقوط الاتحاد السوفيتي.. حاول التوفيق بين الذكريات الحمراء والبيضاء للبلاد عن طريق خلط رموز القيصرية والاتحاد السوفيتي لدفع روسيا إلى الأمام والخروج من أزمتها.

لكونه ضابط سابق في ال KGB استشعر الخطر الغربي الذي يحوم حول روسيا حيث لا يمكنه ترك الانتقادات في الداخل أن تنطلق بحرية ضد حقبة الاتحاد السوفيتي بمساعدة مؤسسات الغرب. ولا يمكنه التغاضي عن انضمام دول البلطيق إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بعد أن كانت ضمن فضاء الاتحاد السوفيتي. وقيام "الثورات الملونة" (جورجيا في نهاية عام 2003 وأوكرانيا في أواخر عام 2004) التي تدعو للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي. حيث اعتبرها بوتين خدعة وتلاعب من قبل منظمات الخدمة السرية الغربية والأمريكية. مصرحا بإن سقوط الاتحاد السوفيتي يمثل أكبر كارثة جيوسياسة في القرن العشرين. كأنه يمهد لعودة الستالينية في البلاد وفق منظور جديد يجعل منه مرشدا أعلى لروسيا، وبدلاً من مواجهة الماضي والتكلم ضده، اقترح بوتين دفنه من أجل المضي قدمًا.

السياسة هي فن تحديد وتحييد العدو
تأثر بوتين في أطروحاته حول الجغرافيا السياسية، ليجعل مهمة السياسة الروسية في السعي إلى الإصلاح في الداخل وإلى تصدير الفضائل في الخارج، من خلال تحويل السياسة الدولية إلى حوار حول "التهديدات الروحية"

استخدم بوتين أفكار الفيلسوف Ivan Ilyin 1883-1954 الذي انتقد الديمقراطيات الأوروبية وحلم بـ "مرشد" لروسيا "يعرف ما الذي يجب عمله" كونه قومي روسي فاشستي قيصري، استخدمت كتاباته كأداة ودعاية لتعزيز فكرة بوتين عن الديمقراطية السيادية. أوصى بوتين حكامه المعينين من قبله على الأقاليم الروسية بقراءة كتاب إليان "مهمتنا" خلال العطلة الشتوية، كما تلقى إليان قدرا كبيرا من الاهتمام من أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حيث أشاروا اليه بأنه "فيلسوف ديني" و "مبشر بالتجديد الروحي وانبعاث روسيا من جديد".

 

تأثر بوتين أيضا في أطروحاته حول الجغرافيا السياسية، ليجعل مهمة السياسة الروسية في السعي إلى الإصلاح في الداخل وإلى تصدير الفضائل في الخارج. من خلال تحويل السياسة الدولية إلى حوار حول "التهديدات الروحية"، ساعدت أعمال هذا الفيلسوف النخب الروسية على تصور أوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة كأخطار وجودية على روسيا. متأثرين بمقولات إيليان الذي لم يكن يعتقد أنه كان هناك شيء اسمه الأمة الأوكرانية. وبالتالي، لم يكن الأوكرانيون يتمتعون بأي حق في أي شكل من أشكال الدولة. في الوقت نفسه، بالنسبة لروسيا، فإن خسارة أوكرانيا ستكون قاتلة وتؤدي إلى مزيد من تفكك وتقطيع الأمة الروسية.

كتحذير لأبناء بلده ، تنبئ إيليان بأن الغرب سوف يستخدم أفكار "التحول الديمقراطي" و"الفيدرالية" و"انتصار الحرية" ضد روسيا لهدف واحد فقط – لجعلها ضعيفًة، حيث جادل بأن الديمقراطية مستحيلة في بلد ضخم مثل روسيا، وأن التكوين الوحيد المحتمل هو "ديكتاتورية وطنية روسية". في نظر إيلين، كان من المستحيل توحيد التنوع الجغرافي والعرقي والثقافي لروسيا بدون وجود قوة مركزية. لن تكون ديكتاتورية شمولية، بل دكتاتورية سلطة، دولة تعلّم شعبها "الحرية" بمحدودية حتى لا تواجه روسيا الفوضى بل النظام. مبنية على الوطنية مع وجود قائد قوي في القمة ، فإن مثل هذا النظام سيحمي روسيا من الثورات والفوضى.

وجهات نظر إيليان تتطابق تمامًا مع دعاية بوتين : لم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي عادلاً ، وكان الروس قد خدعوا بوعود الديمقراطية التي أدت إلى عقد من الفقر والإذلال والعجز السياسي. الديمقراطية لم تنجح في روسيا؛ القيم الغربية أفسدت الأمة وأصبحت تحت هجوم مستمر من أولئك الذين يسعون لتفكيكها. وينطبق الشيء نفسه على عدم ثقة أيلين بالحكم الديمقراطي. إن الأسباب التي يعطيها إليان كتفسير للكراهية الغربية لروسيا يتم التعبير عنها يوميا في التلفزيون الروسي: الغرب لا يعرف أو يفهم روسيا، وهو يخافها. الأهم من ذلك انه يرفض المبادئ الروسية الأرثوذكسية.

تاكيدا لهذه الاقتباسات من الفيلسوف، صرح بوتين في قمة الناتو التي انعقدت في بوخارست سنة 2008 موجها كلامه لجورج بوش رئيس الولايات المتحدة في حينها ردا على سؤال عن عضوية اوكرانيا في الناتو " أنت لا تفهم، جورج، أن أوكرانيا ليست حتى دولة. ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها هو أوروبا الشرقية، ولكن الجزء الأكبر هو هدية منا".

المزيد من المحافظة والكراهية التي لا هوادة فيها للغرب

أما فترة ولاية بوتين الثالثة – بعد ميدفيديف 2008-2012 فهي شاهد على تعميق الإيديولوجية الروسية بعد تشخيص خصومها ، كان عام 2013 هو "التعمق في التحول المحافظ". اقتبس عن الفيلسوف المعادي للغرب Constantin Leontiev 1831-1891 الذي أكد أن أوروبا قد سقطت في الانحطاط، وعلى النقيض من ذلك ، أشاد ب"التعقيد المزدهر" للإمبراطورية الروسية. وهل يمكن لروسيا أن تجعل أوربا التي سقطت في حالة فقدان الذاكرة مدركة لجذورها المسيحية مرة أخرى؟

 

هذا الخطاب وقع على آذان بعض السياسيين الأوربيين. حيث أدان بوتين "العديد من البلدان الأوربية الأطلسية التي ابتعدت عن المبادئ الأخلاقية وهويتها التقليدية الوطنية والثقافية والدينية وحتى الجنسية باتباعها سياسات تزيد من الانحلال الاخلاقي في ان تقر شراكة من نفس الجنس والدعوة للشذوذ الجنسي، إلى درجة تجعل الناس يتحدثون بجدية عن تسجيل الأحزاب التي تهدف إلى إضفاء الشرعية على الدعاية الجنسية للشواذ، وخلص بوتين إلى أن ذلك سيؤدي إلى"أزمة ديموغرافية وأخلاقية"، دعا إلى "الدفاع عن القيم التقليدية" والى الرجوع الى المحافظة على التقاليد والقيم.

تأثر بوتين بـ
تأثر بوتين بـ"ليف غوميليوف" والذي غالبًا ما يُعتبر مؤسس الحركة الأوراسية، وقد نُقل عنه قوله: "أنا آخر الأوراسيين"، حيث أنشئ الاتحاد الاقتصادي الآوراسي وفق تطلعات هذا المفكر المهووس بفكرة أوراسيا
 

استلهم بوتين أيضا من المفكر Nikolay Danilevsky 1822-1885، مؤلف كتاب روسيا الكلاسيكية وأوروبا، ودفاعه عن "المسار الروسي" ثقافيا وسياسيا. في مارس 2014، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم – كرد فعل للثورة في أوكرانيا، أكد بوتين أن: "لدينا كل الأسباب لنفترض أن السياسة الشائنة لاحتواء روسيا، والتي كانت متواصلة في القرن الثامن عشر، القرن التاسع عشر، القرن العشرين، مستمرة اليوم. إنهم يحاولون باستمرار أن يدفعونا إلى الزاوية لأننا نتمتع بمكانة مستقلة نحافظ عليها ولأننا نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ولا نشارك في النفاق. لكن هناك حدود". تعبيرا عن الثأر لروسيا من الغرب.

تأثر بوتين أيضا ب Gumilyov Lev والذي غالبًا ما يُعتبر مؤسس الحركة الأوراسية، وقد نُقل عنه قوله: "أنا آخر الأوراسيين".حيث انشئ الاتحاد الاقتصادي الآوراسي EEU وفق تطلعات هذا المفكر المهووس بفكرة أوراسيا. ويتوقع من هذا المشروع تأسيس سوق واحدة تضم 180 مليون شخص. موحدا روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وأرمينيا وقرغيزستان ويتوقع أن تنضم دول أخرى من آسيا الوسطى لمنافسة أوروبا واتحادها.

المزيد من القيم المحافظة ضد الانحلال الأخلاقي للغرب، والدفاع عن "المسار الروسي" في مواجهة المناورات العدائية من الخارج، والتأكيد على قوة أوروبية -آسيوية كموازنة للمجال الأطلنطي – وتفعيل دور الكنيسة الارثوذكسية والتي يعين رؤسائها من قبل بوتين، كل هذه النواقل للأيديولوجية الجديدة تم تأكيد الكرملين عليها بقوة لمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى وكانت موضوعًا للندوات والبرامج التليفزيونية. في عام 2015، في الوقت الذي كان يعاني فيه الاقتصاد الروسي. من الواضح تماماً أن الاخذ بنوع معين من الفلسفة الروسية – أكثر مفكريها يحملون افكار معادية للغرب، حيث يمكن رؤية فعالية هذا المزيج الأيديولوجي في تأثيره الذي أصبح عالميًا وليتشكل مفهوم جديد في السياسة أطلق عليه البوتينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.