شعار قسم مدونات

حين نفتقد عزيزاً..

مدونات - الحزن2

بصراحة كانت صدمة شديدة، لم أعلم بعد أيةُ خطة صبر انتهجتها لأقوى على احتمالها، منذ ذاك اليوم وأنا اضطرم حزناً كلما تذكرت فراقها لنا. أصبح سيري ومروري في السبل التي جمعتنا بها مُقترنا بتنهدات حارقة، صحيح أنّي لم أرها منذ أمد بعيد، لكن صوتها يصلني بين الفينة والأخرى زمن الحلم. كان صوتها رخيما كأنه تجليات الفجر حين يفصل بين ليل قاتم ونهار مشرق مذعن للخير، لم أكن أعلم أنها ماتت بدون سابق إنذار، لم أعلم أن أنفاسها الطاهرة ولت مدبرة نحو الفراق، لم أعلم أنها اختارت البرزخ عالماً جديداً، لم يخبرني أحد بهذا الخبر المحزن.

لماذا أخفوا عني هكذا خبر؟ هل خافوا علىّ من وقع الخبر وقد علم القاصي والداني حبي الأسطوري لها؟ أم أنها لا تعني لهم شيئاً! عادي إن ماتت وعادي إن بقيت على قيد الحياة؟ لا أدري كيف مر هذا المصاب الجلل دون أن أتحسس الأسى الذي رسمه في أوجه أحبة الفقيدة. وهل للفقيدة أحبة غير الذي أعرف؟ لا أدري كيف سأقدم لهم واجب العزاء بعد هذه المدة الطويلة. أخشى أن أكون سبباً في تجدد أحزانهم. لماذا لم ينتشر الخبر في الفيسبوك مُرفقا بصورة لها ككل نعي؟ لماذا لم يعلمني أصدقاء العمل والحي والمقهى؟ أعرف أنهم علموا وعملوا بنصيحة أحدهم بأن يبقى الأمر طي الكتمان دون أن يعرف لي عنوان.

قال أنهم دفنوها و السرور يغمرهم، لا أحد يلوم أحداً وكأنها غُمة انزاحت عنهم لتستمر الحياة سعيدة دونها. كانوا قُساة مع جثمانها وكأنها عدو يَنتقمون منه.

صدفةً أعلَمني أحدُهم في قالب حديث، كانت الرشفة تُودع حافة الفنجان حين حَطَت في فمي، لكنها المسكينة كان مآلها الثرى حين حط الخبر على رأسي. لم أقوى على إسكانها جوفي فلفظتها، ثم ما اتخذت دون وعي مني قطع الفنجان المحطم كما فؤادي مقعدها هي أيضاً على الثرى. حتى أن رواد المقهى هالهم المشهد لكن دون أدنى ردة فعل وكأن الشلل أصابهم، بقيتُ ساهماً لا أدري ما أقول وقد أوجعت قبضتي فخذاً علا سخطه. لا أدري كم قطرة دمع سالت على خدين صدحا ألماً، ولا أدري كم ذكرى مرت حضرتها.

حين عُدت إلى الواقع بعد أن رجني النادل من كتفي رجوت الصديق أن يفرح قلبي بأنه يمازحني، لا ليس موضع مزاح يا صديقي، تلك هي الحقيقة فصبرٌ جميل. انتهى آخر أمل يبقيني حالماً بأنها في أفضل حال، كان جاداً في حديثه، ثبات عينيه المغرورقة ببعض الدمع آسفاً على حالي وامتقاع وجهه المرح في العادة، والامتعاض الذي زوقته شفتيه كلها تؤكد أنه صدق فيما قال وفيما سيقول. قال لي أن جنازتها كانت مشهودة. حضر الآلاف في تشييعها إلى مثواها الأخير. ليتني كنت معهم لأودعها وداعاً يليق بمقامها في قلبي. لماذا أخفيتم عني أيها الأوغاد؟ لماذا؟

قال أنهم دفنوها و السرور يغمرهم، لا أحد يلوم أحداً وكأنها غُمة انزاحت عنهم لتستمر الحياة سعيدة دونها. كانوا قُساة مع جثمانها وكأنها عدو يَنتقمون منه. انتظرت الصباح وقد ضاق بي ذرعاً سريري حين أتلظى فوقه ألماً يمنة ويسرة، لم يغمض لي جفن ولم يسمع لي لحن سوى الأنين. كانت تتراءى لي صورتها في كل رفة عين، كانت ضاحكة رغم الشحوب الذي طبع على وجهها. ربما من تعب الموت وربما من قسوة المشيعين، فقط ضحكتها طمأنت قلبي الملتاع. مع أول إطلالات الشعاع كنت أمام قبرها. ذرعت المقبرة أكثر من مرة حتى وجدته، كان قبراً مُهملاً في آخر هذا المكان الموحش.

الأوغاد دفنوها على حافة الواد كأنهم تعمدوا ذلك ليتخلصوا أيضاً من رفاتها عند أول فيضان، لا يهم عاشت كريمة وماتت كريمة وستبقى ذكراها خالدة في كياني وشاردة من خيالهم. بدأ بعض الرذاذ يقطع الوجوم الذي اعتراني ويؤنس في الآن ذاته وحشة المكان، حان وقت المغادرة ووقت كفكفة الدمع والإقرار بأنها مضت بلا رجعة. ودعتها بكلمات اختنقت أثرها ولوحت لها بيدي المرتعشة، قطعت بعض الخطوات نحو باب الخروج لكن عن لي أن أعود وكأني تذكرت شيئاً. طال وقوفي أمام القبر الهامد الذي يحمل فقيدتي الهامدة بين أضلعه. بقيت برهة من الزمن لم يحدد عقلي المتألم مقدارها أتطلع إلى شاهد القبر الرخامي بأسى متمتماً بالكلمات التي نُقشت عليه "هنا ترقد مطمئنة ضمائركم التي ماتت في صمت ودفنتوها بصخب.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.