شعار قسم مدونات

آفة الاستهلاك.. كيف تخدعنا الشركات لشراء ما لا نحتاجه؟

الجمعة السوداء

أُحادِثها، ترد عليا تارة، تمنحني نظرة عابرة ثم تعود تنظر لهاتفها المحمول، ما إن أصمت حتى تُردف هي بالحديث عن الفستان الوردي الذي يعرضه المحل الفلاني بعرض خاص وأسعارٍ منافسة، ثم تنظر لذلك الحذاء وتلك الحقيبة وذلك الجهاز الالكتروني، وتحتفظ من كل هذه المنتجات صورًا لها بتفاصيل أسعارها كي تعود إليها عندما تزور المحلات التجارية لتقتنيها قبل فوات الأوان. تكرر ذات المشهد أكثر من مرة، فسألتها أأنتِ بحاجةٍ لهذه القطعة؟ قالت لا، ولكنّها بسعر مغري، إنها أقل من نصف السعر حتّى! هل سمعتم من ذي قبل عن (ثقافة الاستهلاك)، وعن النهج الذي ينتهجه كل من له دورٌ في المنتجات، بدءًا من المصانع، انتهاءً بالتجار والمستخدمين.

  

ثقافة الاستهلاك تتمثل في خلق شعورٍ دائمٍ لدى المستخدم أنّه بحاجة لهذا المنتج، وأنه يجب أن يشتريه وإلا يكون قد خسر خسرانًا مبينًا، وبذلك تختلف المبادئ التي عرفناها سابقًا أن عملية الشراء عند المستخدم تتلخص بثلاثة محاور أساسية كي تتم وهي: الرغبة، القدرة، والحاجة؛ فتكون الحاجة هي العامل الأشد عند الشراء فيبحث وقتها المشتري عن بضاعةٍ تناسب قدرته المالية، أما في ثقافة الاستهلاك فإن معيار الرغبة هو الأقوى وهو الذي تلعب عليه كل وسائل الإعلام والترويج للمنتجات بطريقةٍ تُشعر المستخدم أنه باقتنائه للمنتج سيُحقق راحة نفسية، ومشاعر برجوازية، وحالة هادئة نسبية، ولكن سرعان ما يتبدّدُ هذا الهدوء بإزعاجِ إعلانٍ جديد وعرض سعرٍ رهيبٍ آخر.

وقعنا وبقوّة ضحية لثقافة الاستهلاك؛ بل ويتفاخر البعض بكميات الأشياء التي قاموا بشرائها مؤخرًا وبالسعر المنخفض جدًا لها. لكن يظهر خلافًا لمعتنقي مذهب الاستهلاك، أشخاص آخرون مذهبهم البساطة في كل شيء

  
في بعض الدراسات أنه تبلغ نسبة الانفاق السنوي في دول الخليج على الكماليات والأشياء غير المهمة عشرون بالمائة وينفق المجتمع السعودي سنوياً على الطعام حوالي خمسين مليار ريال، نصف هذا المبلغ يذهب لسلة المهملات فعليًا. ولا أنكر أنّي أقع مراتٍ فريسة للهجمات الإعلامية الدعائية والتي كان لها الأثر على عقلي وتحركت فيّا الرغبة للشراء بلا تفكير، ولكن سرعان ما أتذكر مقولة عمر بن الخطاب لجابر بن عبد الله عندما مر عليه مُعَلِّقًا لَحْمًا، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ " قَالَ: "هَذَا لَحْمٌ اشْتَرَيْتُهُ اشْتَهَيْتُهُ" قَالَ: "أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ شَيْئًا اشْتَرَيْتَهُ؟ أَمَا تَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ "أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا" سورة الأحقاف آية 20.
  

فطالما لا حاجة لك، لن تجد سبيل خلاص لرغبتك التي ستتجدد بشكل قوي وغير مسيطرٍ عليه. وكي يكون شعور الرغبة منصفٌ بالحاجة، فثقافة الاستهلاك تقتضي على الجهات المصنّعة أن تصنع منتجاتٍ لا تدوم لعشراتِ السنين كالتي كانت في السابق، كتلك القطع التي احتفظت بها أمي ما يزيد عن الثلاثين عامًا لتكون صالحة لنا كي نرتديها أو نستخدمها بلا مشاكل؛ فبثقافة الاستهلاك نحتاج لمنتجات أقل جودة لتكون أقل عمرًا، وبالتالي تكون رغبة المستخدم بشيء جديد أقوى، فهنا تتحد الرغبة والحاجة سويةٌ، ناهيك عن الطرق التسويقية وطريقة عرض المنتجات التي ترغمك على شراء الكثير منها ما هو سلعة أساسية ومنها ما هي مكمّل أو بديل أو كمالي أو اكسسوار!

   
إننا وقعنا وبقوّة ضحية لهذه الثقافة؛ بل ويتفاخر البعض بكميات الأشياء التي قاموا بشرائها مؤخرًا وبالسعر المنخفض جدًا لها. ويظهر خلافًا لمعتنقي مذهب الاستهلاك، أشخاص آخرون مذهبهم البساطة في كل شيء، وهو عدم اقتناء او امتلاك أي شيء خارج عن الحاجة الأساسية في الحياة اليومية، وما سوى ذلك ما هو إلا زيادة يستفذ منا طاقة كبيرة في الترتيب والتنظيف، او حتى طاقة ووقت أكبر في الاختيار إن تعلق الأمر بارتداء الملابس مثلا.
  
وبصدد ثقافة الاستهلاك تكمن الجمعة السوداء أو الـ (black fraiday)، والتي تسجل فيها كُل عامٍ مشاهد عنيفة من الشجارات التي تحدث على المنتجات نتيجة الانخفاض الكبير في سعرها مقارنة بما كانت عليه طيلة العام، ولا تكاد تميّز في الجمعة السوداء بين مجتمعٍ متحضرٍ وغيره، فهُنا مهمّة كبيرة وعظيمة يجب أن تنجز، والكل يسعى لأن يكون الفائز بأكبر عدد من المنتجاتِ المشتراه. لا أدرى عن الوقت الذي نحتاجه لترتيب أولوياتنا بالشكل المطلوب، ونضع كل الأمور المستحدثة على باب المسائلة قبل أن تغزونا وتصبح جزءًا منا، وأن تكون أفعالُنا أفعالًا لا ردود أفعال، وأن تكون مبادئنا يقظة لا سهلةً تحت وطئه أية إعلان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.