شعار قسم مدونات

القطيعة مع التراث العربي!.. رفقًا بعقولنا يا أدونيس

BLOGS أدونيس

منذ عام مضى كنتُ أقيم في مدينة أراكاجو البرازيلية، عاصمة ولاية سيرجيبي. وهي مدينة تقع على ساحل المحيط الأطلسي، وتعتَبر أصغر عواصم الولايات البرازيلية. خلال إقامتي القصيرة هناك (والتي دامت ستة أشهر)، كانت عندي عادة التردد على إحدى كبرى مكتبات تلك المدينة للترفيه عن النفس. في واحدة من زياراتي لتلك المكتبة، وقع نظري على كتاب بالبرتغالية لفت انتباهي عنوانه: "الفيلسوف المعلَّم نفسه" بحثتُ عن اسم المؤلّف، فإذا هو الفيلسوف العربي الأندلسي إبن طفيل، وإذا بهذا العنوان ترجمة غير حرفية لـ"حيّ بن يقظان". أما دار النشر التي أصدرت هذا الكتاب فهي التابعة لواحدة من كبرى جامعات البرازيل، وهي جامعة ولاية ساو باولو.

 

وبعد عودتي إلى الإقامة في ساو باولو، كبرى مدن البرازيل من حيث عدد السكان، وعاصمة البلاد الاقتصادية، قمتُ بزيارة مكتبة الجامعة التي أصدرت كتاب "الفيلسوف المعلّم نفسه" لأشتريه كهدية لأحد الأصدقاء الأطباء البرازيليين، لإعطائه نموذجًا مشرقًا عن الحضارة العربية الإسلامية، بعد أن آنستُ منه اهتمامًا بحضارتنا واستعدادًا للفهم. في هذه المكتبة التقيتُ برجلٍ لا أعرفه يقوم بشراء مجموعة من الكتب باللغة البرتغالية. أخذني للفضول لاختلاس النظر في عناوين كتب الرجل، فكان من بينها مثلًا الأعمال الكاملة لباروخ سبينوزا (الفيلسوف اليهودي الهولندي الذي آمن بوحدة الوجود). لكن أكثر ما لفت انتباهي كان كتابًا عن حياة وأعمال الفيلسوف العربي الأندلسي أبي الوليد بن رشد القرطبي. لاحظ الرجل استغرابي عندما نظرت إلى الكتاب عن ابن رشد، فبادرني قائلًا: "ابن رشد كان عبقريًا، وعند الأقدمين العرب والمسلمين من الحكمة ما نفتقده في أيامنا هذه".

 

إن أدونيس يدعو العرب والمسلمين إلى ما لا يفعله الغرب، القطيعة النهائية مع التراث العربي الإسلامي. وإنه ليدعونا إلى تسفيه ما اعترف الغرب بعظمته وأكبّ على دراسته ونهل من معينه

فها هما الفيلسوفان العربيان الأندلسيان لا يزالان حيّان يرزقان، بعد قرونٍ على وفاتهما، على الضفّة الغربية للمحيط الأطلسي الذي تحاذي مياهه في الشرق الأندلس الضائعة. وها هي أعمالهما مترجمة إلى البرتغالية لينهل منها الشعب البرازيلي في أكبر عواصم الولايات البرازيلية وأصغرها. فالثقافة العربية الإسلامية لا تزال حاضرة في النسيج الذي يكوّن الحضارة الغربية المعاصرة. والتراث الإسلامي العربي يحظى باهتمام وإقبال ورواج في بلدان قد لا يتوقّع العرب والمسلمون هذا منها. 

 

إلّا أن مشرقنا ومغربنا العربيين يشهدان بروز أصحاب أصواتٍ تحطّ من شأن التراث العربي الإسلامي وتزدري ثقافتنا وإسهاماتها وإبداعاتها في تاريخ الحضارة وفي خدمة الإنسانية. بل أن البعض يبلغ بهم التحامل على الموروث الثقافي العربي الإسلامي، وتدفعهم النقمة على أمة القرآن والبيان إلى أن يقوموا بالدعوة إلى القطيعة النهائية مع التراث، وتسفيه كل ما تركه للإنسانية من قيم وعلوم وآداب. من هؤلاء الشاعر السوري أدونيس المثير للجدل دائمًا، والذي لم يكتفِ بتجريد التراث من المناقب والحسنات وإسباغ المثالب والسيئات عليه، بل راحت عقيرته ترتفع بالمناداة إلى القطيعة الصارمة والجازمة والنهائية مع تراثنا العربي الإسلامي. 

 

ونحن لا نريد أن ندخل في سجال مع أدونيس، ولا نريد أن نفحمه، وليست غايتنا أن ندحض دعوته، وليس من شِيَمنا أن نسعى لإلقامه الحجر وإظهار قوة حجتنا وتهافت دعوته. ولكننا نريد أن نطلب منه طلبًا صغيرًا، فإن هو أجابنا إلى طلبنا واستطاع تلبيته، قبلنا منه دعوته، وسلّمنا له بكلّ أقاويله تسليمًا كاملًا بملء إرادتنا، غير مكرَهين أو مرغَمين. 

 

إننا نطلب من أدونيس أن يقنع الغرب أوّلًا بأن يتبنّى القطيعة التامّة والنهائية مع التراث العربي الإسلامي، فإن اقتنع الغرب منه وقبل دعوته، سارعنا نحن إلى قبولها أفواجًا. إننا نتحدّاه أن يقنع دار النشر البرازيلية التي ترجمت "حي بن يقظان" إلى اللغة البرتغالية وقامت بتوزيع رائعة ابن طفيل هذه على كبرى المكتبات في أهم مدن البرازيل، إننا نتحداه بأن يقنعها بأن تسحب كل نسخ هذا العمل الإبداعي من كل المكتبات وأن تقوم بإحراقها. فإن أجابته دار النشر هذه إلى دعوته، أجبناه نحن إلى مقاطعة تراثنا.

 

وإننا نطلب من الأستاذ أدونيس أن يقنع ذلك الرجل البرازيلي الذي يعتبر ابن رشد عبقريا والذي يؤمن أن حضارة المسلمين الأندلسيين تحمل الحكمة والمعرفة، إننا نطلب من أدونيس أن يقنع ذلك الرجل بالرجوع عن آرائه بخصوص فيلسوفنا القرطبي وحضارتنا الأندلسية المبهرة التي رثاها الشاعر البرتغالي العظيم فرناندو بيسوا رثاءً صادقًا وشجيًّا. فإن اقتنع منه ذلك الرجل، وعدل عن آرائه، وأدار ظهره للتراث العربي الإسلامي، قبلنا نحن الدعوة الأدونيسية قبولًا حسنًا. 

 

وإننا نتحدّى أدونيس أن يقنع الجامعات ومراكز الأبحاث في الغرب أن تتوقف نهائيا عن دراسة كل ما يتعلّق بالتراث العربي الإسلامي، وأن تمنع أي رسالات أو أبحاث تتناول هذا التراث من قريب أو بعيد. فإن أجابت أدونيس إلى دعوته مؤسسات الغرب الأكاديمية ومراكز أبحاثه ودوره الفكرية ومنتدياته الفكرية، لما قصّرنا نحن في اتّباعه ولكنّا عنده تلاميذًا مطيعين ومخلصين.

 

بعض انتقادات أدونيس في محلها، ولكن لا يوجد أي مجتمع يستطيع أن يقوم بقطيعة ثقافية مع ماضيه وتراثه. الغرب نفسه لا يزال يذكر فلاسفة اليونان ومفكري القرون الوسطى مثل توما الأكويني والقديس أغسطينوس
بعض انتقادات أدونيس في محلها، ولكن لا يوجد أي مجتمع يستطيع أن يقوم بقطيعة ثقافية مع ماضيه وتراثه. الغرب نفسه لا يزال يذكر فلاسفة اليونان ومفكري القرون الوسطى مثل توما الأكويني والقديس أغسطينوس
 

وإننا نتحدّى أدونيس بأن يوجّه دعوة عامة إلى كل مؤلفي معاجم أهم اللغات الغربية الحية، من إنكليزية وفرنسية وإسبانية وبرتغالية وإيطالية، بأن يزيلوا من بطون مراجعهم اللغوية كل الكلمات والمفردات ذات الأصل العربي. فإن أجابه هؤلاء النحارير إلى دعوته، سارعنا نحن إلى القطيعة مع تراثنا.

 

إن أدونيس يدعو العرب والمسلمين إلى ما لا يفعله الغرب: القطيعة النهائية مع التراث العربي الإسلامي. وإنه ليدعونا إلى تسفيه ما اعترف الغرب بعظمته وأكبّ على دراسته ونهل من معينه. رفقًا بعقولنا يا أدونيس، كيف تريدنا أن نتخلّى عما يتمسك به أقوامٌ هم بفضلنا معترفون رغم حقدهم على رسالتنا الحضارية العربية والإسلامية؟ ولأننا على يقين بأن أيًا من الأشخاص الذين تحديناك في إقناعهم لن يجيب طلبك، فالأجدر بنا نحن، عربًا ومسلمين، أن نولّيك الظهور ونعرض عن حماقاتك.

 

المثير للجدل دائما أدونيس: بعض انتقاداته في محلها، ولكن لا يوجد أي مجتمع يستطيع أن يقوم بقطيعة ثقافية مع ماضيه وتراثه. الغرب نفسه لا يزال يذكر فلاسفة اليونان ومفكري القرون الوسطى مثل توما الأكويني والقديس أغسطينوس. ما يبشّر به أدونيس متطرف جدا. لو أنه نادى ب"إصلاح العلاقة مع التراث" لوقفنا معه بلا شك. نقده للحكام العرب في محله ولكنه لم يترجمه إلى مواقف عملية، بل أيّد نماذج لا تمت بأي صلة إلى قيم الحداثة الغربية التي يتشدق بالدعوة إليها، فضلا عن تنافيها مع أبسط قيم الإنسانية. أدونيس رجل غير متصالح مع نفسه ومثقّف غير صادق مع ضميره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.