شعار قسم مدونات

الكتابة.. طوق نجاة الباحثين عن ذواتهم!

blogs كتابة

مع اقتراب نهاية كل سنة، نلتفت إلى الخلف قليلا لنرى ما نجحنا في تحويله من أمنية أو هدف إلى حقيقة وواقع، وحالي كحال جل أبناء الوطن العربي، نتمنى كثيرا، نخطط أكثر ونحقق القليل.. لماذا؟ تختلف الأسباب من شخص إلى آخر ولكن ذلك لا يهم كثيرا مادامت لائحة أهدافنا تطول عاما بعد عام ويطول معها الأمل والإصرار على النجاح. وغالبا ما يكون رصيدي مُرضيا إلى حد ما ويتضمن أحيانا أمورا تسعدني كثيرا بالرغم من أنها لم تكن ضمن توجهاتي، أبرزها نشر بعض مقالاتي على أكثر من منصة تدوين زيادة على الخواطر والأشعار التي كنت أنشرها على مدونتي الخاصة.

 

مقالات قليلة العدد في حقيقة الأمر ولكنها تعني لي الكثير، فقد مكنتي من اكتشاف موهبة التدوين ومدى الشغف الذي يعتريني عندما أكون بصدد كتابة مقال جديد. شغف يسمح بالتعبير عن الذات والتواصل مع الآخر والمساهمة ولو بالقليل في إغناء المكتبة الإلكترونية.. الشكر موصول لمنصة مدونات الجزيرة ولكل منصات التدوين الإلكتروني التي شجعت وسمحت لعدد كبير من عشاق التدوين، والإنتاج الأدبي عموما، بممارسة شغفهم ومشاركته مع الجميع والتي ساهمت أيضا في إعادة الاعتبار والمجد للغة العربية بين أوساط الشباب العربي، في خضم عولمة كادت أن تكون هذه اللغة الجميلة جدا من بين ضحاياها!

حسنا لنتحدث الآن عن الكتابة، ذلك الفعل الذي طالما ارتبط بالعزلة، الفلسفة والمزاجية أحيانا، وأظن أن هذا الأمر مقبول إلى حد ما لما يستلزمه الإنتاج الأدبي من تفكير وتركيز عميقين، ومحادثات داخلية مع الذات من أجل استحضار التجارب والأحداث المعززة لأفكار الكاتب، لأنه في آخر المطاف يعبر عن ذاته في كثير من الأحيان، بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فالكتابة تجعل الإنسان في اتصال حقيقي مع العالم الخارجي، فهي بمثابة إخراج لتأملات الكاتب في محيطه وترجمة لما تمليه عليه هذه التأملات من أحاسيس وانفعالات، مما يجعل علاقة الكاتب بمحيطه ملموسة ومادية أكثر.

الكتابة تمكن أيضا من تحقيق الذات بشكل كبير كما عبّر عن ذلك لورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية حين قال: أكتب لكي أحقق ذاتي

أثناء الكتابة، يستطيع الإنسان التكلم بكل أريحية وطلاقة لأنه يأخذ وقته الكافي جدا في إيجاد واختيار الكلمات والعبارات المناسبة لما يود التعبير عنه، يستطيع جمع شتات أفكاره المتطايرة في دفاتره الداخلية ويدافع عن آرائه ومبادئه لإقناع القارئ إذا كان ذلك طبعا من بين أهدافه، وهذا كله يجعل من الكاتب شخصا دقيقا ومهتما بالتفاصيل، وأظن أنه لذلك قال فرانسيس بيكون : القراءة تصنع إنسانا كاملا والمشورة تصنع إنسانا مستعدا والكتابة تصنع إنسانا دقيقا.

في كثير من الأحيان نسمع أن لكل كاتب طقوس خاصة لا يستطيع الكتابة في غياب شروطها وظروفها، شخصيا أرى أنه أمر فيه من المنطق ما يجعله فكرة قابلة للنقاش، للقبول الكلي أو حتى الرفض الكلي وذلك تعزيزا لما ذكرناه قبل قليل، لأن هذه المسألة تجعل من الكاتب شخصا غير عادي، غريب الأطوار ومختلفا كثيرا عن الأشخاص غير الكاتبين لكي لا أقول الأشخاص العاديين، في حين أنه يمكن للمبدع الأدبي أن يكتب عندما يتزامن نداء القلم مع غياب الطقوس !

و الكتابة حالها حال الرسم والنحت والمسرح وكل أشكال الفنون والتعبير الإبداعي، هي أداة لتوثيق وأرشفة التاريخ البشري أو الأحداث التي يعايشها الكتاب الشاهدون على العصر، لأنهم بذلك يساهمون في المحافظة على سير الخط الأدبي للتاريخ وكذا إثرائه، سواء من خلال سرد ما عاشوه أو ما روي لهم من أحداث ووصف لأشخاص في إطار زمكاني معين، أو من خلال التعبير عن ذواتهم.. مما يعكس لدى القارئ واقعا نفسيا،، اجتماعيا، سياسيا أو اقتصاديا يستطيع من خلاله التقرب إلى الواقع أو التعرف إلى الماضي وإنجاز مقارنات سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع.

وهذا الأمر لا ينطبق على التاريخ والأحداث فحسب، وإنما على الكاتب أيضا، فذلك يضمن له بقاء اسمه حيا على مدى السنوات، فلا يمر مرورا عاديا، يغادر جسده وتبقى أعماله تتكلم عنه رغما عنه. الكتابة تمكن أيضا من تحقيق الذات بشكل كبير كما عبّر عن ذلك لورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية حين قال: أكتب لكي أحقق ذاتي، وبذلك أظن أن الكتابة تضمن استقلالية الرأي وأخذ مواقف شخصية من العديد من الأمور، مواقف تنتهي عند الكثير ممن يمتنعون عن سمعها ولكنهم لا يقاومون الفضول والرغبة في قراءتها.. الإنتاج الأدبي بجميع أنواعه يتيح للكاتب فرصة التميز والاختلاف كما أنه يساعده على الغوص في أعماق الذات والتدبر عميقا في معاني الوجود.

ولكن، ماذا عن أولئك الذين يكتبون ولا ينشرون؟ لماذا يفضلون لعب دور الكاتب والقارئ في آن واحد؟ لا أرى أي معنى لأن تنتج عملا أدبيا وتحكم عليه بالسجن بين رفوف خزانتك في حين أن الأدب، مثل جميع الفنون، وليد الحرية ووالد الجمال! وهنا لا أتكلم عن الخواطر واليوميات ذات الطابع الشخصي جدا، وإنما الحديث عما يستفز الأقلام ويحرك العقول، الحديث عما نشترك فيه جميعا تحت سقف الإنسانية، حيث أنه من الواجب على الموهوبين والمحترفين الكتابة لأولئك الذين هم أقل منهم تمكنا وشغفا.. وفي انتظار الإجابات والتوضيحات، كل المتمنيات بالسلم والسلام للإنسانية جمعاء، الكثير من الشغف للأدباء والمدونين، المزيد من الجرأة للذين لم ينشروا إبداعاتهم بعد وكل المجد للغة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.