شعار قسم مدونات

نحن مقهورون.. ولذلك تظهر كل تلك الشرور

blogs حزن

استكمالًا لما طرح في الجزء الأول من هذا الموضوع فإن الدكتور مصطفى حجازي يعرض للمنهجية التاريخية في دراسة المجتمعات المقهورة التي تفترض أن نفسيّة هذه المجتمعات ليست راضخة كليّة للقهر. فحسب ما ورد في كتابه "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهو" فإن الجماهير المقهورة قد تسكن طويلًا بمرحلة الرضوخ لكنها تنتقل منها إلى مرحلة الاضطهاد ثم التمرد والثورة. ومضة: المجتمعات المقهورة ليست ساكنة وإنما تسير نحو الخلاص.

تشكل هذه المراحل الثلاثة (الرضوخ/الاضطهاد/التمرد) الخصائص النفسية للشعوب المتخلفة، ويمكن ملاحظة تأثيراتها بوضوح في التعاملات البينية والعلاقة بين القاهر والمقهور.

أولًا: مرحلة القهر والرضوخ

هي المرحلة الأطول نسبيًا بين بقية المراحل وتمثل القاع الذي يفقد فيه المجتمع المتخلف إنسانيته في مقابل تعاظم قوى المستبد وتوهجها؛ فتنهار قيمة الإنسان وتعجز الجماهير عن الردِّ والمقاومة. وتبدو المذلة والاستكانة هي الطبيعة الأصيلة لهذه الجماهير لاسيما أن القوى المستبدة تجتهد في تعزيز هذه الفكرة والترويج لها فتئد كل محاولات التمرد الفردي وتقطع السبيل أمام كل أمل في الانتفاضة.

في اللحظة التي يتخذ فيها الإنسان المقهور خيار المواجهة، يكون عليه الوصول إلى المرحلة الحاسمة فيها وهي تحدي الموت، التي إن اجتازها يكون قد قلب من الناحية النفسية الداخلية معادلة القهر وانتصر على ذاته

ومن الخصائص النفسية للإنسان المتخلف في هذه المرحلة (تبخيس النفس) فيشعر بالدونية والاحتقار لنفسه ومجتمعه، ويميل إلى الانتقام منها والقبول بظلم المتسلط له على أنه عقاب مستحق؛ فتكثر حالات الانتحار والإهمال المؤدي إلى الموت أو الإصابة. لكن أبرز الخصائص النفسية لهذه المرحلة الإعجاب بالمتسلط والاستسلام الكامل له، ورؤيته في صورة الإنسان الفائق الذي يتمتع بحقٍ شبه إلهي في السيطرة والتمتع بكل الامتيازات. وتحت هذا الرضوخ الظاهري تكمن عدائية خفية تنفث عن نفسها في محاولة خداع المتسلط وتضليله واستغلاله بطرق غير مباشرة فيما يعرف بـ(الفهلوة) وهي شعار هذه المرحلة التي يسود فيها الكذب بين القاهر والمقهور على السواء.

ثانيًا: مرحلة الاضطهاد

رغم تداخل المراحل الثلاث، فإن مرحلة الاضطهاد تبرز كتيار عام في المجتمع، دون أن يعني ذلك تساوي الميول الاضطهادية عند جميع أفراد المجتمع، وتكشف مرحلة الاضطهاد عن غليان داخل الإنسان المقهور. فلم تعد حيل الرضوخ التي اعتاد ممارستها تحقق له الأمان النفسي المطلوب. إذ لا يمكن للإنسان أن يتحمل احتقار الذات للأبد ولا بد من شيءٍ ما يشعره بالعزة والكرامة والاعتبار الذاتي في نظر نفسه ومجتمعه.

ولمّا كان المجتمع التسلطي يخنق كل طريقة لشعور الإنسان بالتقدير الذاتي، يبحث المقهور عن مخطئ يحمله العدوانية المتراكمة داخله، حلقة أضعف يمكن لومها وتفريغ شحنات الغضب فيها، شماعة يعلق عليها فشله وعجزه وتخلفه. وهنا تتحول العدوانية إلى الأقران والنظائر والتابعين مثل الزوجة والابناء. فتكثر حالات القتل لأتفه المشكلات، وتتنامى مشاعر الشك والريبة بين الأزواج والزوجات، وتبرز اتهامات الآخرين بالحسد والتآمر.

عندما تفشل تجربة الرضوخ للمستبد والعنف الداخلي في تحقيق الأمان النفسي للإنسان المقهور، يلجأ إلى مبادلة القسوة بالقسوة والعنف بالعنف فيما يسمى برد الفعل الحرج الذي يتلخص في خيار المجتمع بين الفناء والمواجهة.
عندما تفشل تجربة الرضوخ للمستبد والعنف الداخلي في تحقيق الأمان النفسي للإنسان المقهور، يلجأ إلى مبادلة القسوة بالقسوة والعنف بالعنف فيما يسمى برد الفعل الحرج الذي يتلخص في خيار المجتمع بين الفناء والمواجهة.
ثالثًا: مرحلة التمرد والمواجهة

يصل المجتمع المتخلف بالضرورة إلى العنف في مرحلة ما من مراحل تطوره نتيجة شيوع العلاقات الاضطهادية، فيتوجه نحو المسؤولين عن القهر سواء كانوا محتلين أجانب أو مستبدين محليين. عندما تفشل تجربة الرضوخ للمستبد والعنف الداخلي في تحقيق الأمان النفسي للإنسان المقهور، يلجأ إلى مبادلة القسوة بالقسوة والعنف بالعنف فيما يسمى برد الفعل الحرج الذي يتلخص في خيار المجتمع بين الفناء والمواجهة. في اللحظة التي يتخذ فيها الإنسان المقهور خيار المواجهة، يكون عليه الوصول إلى المرحلة الحاسمة فيها وهي تحدي الموت، التي إن اجتازها يكون قد قلب من الناحية النفسية الداخلية معادلة القهر وانتصر على ذاته. مما يتيح له الانتصار على الآخر فيما بعد.

عندما تنتفض مجموعة من المجتمع المقهور فتحمل السلاح في وجه المستبد، تتبدل كثير من الخصائص النفسية للفئة المؤيدة للمقاومة فبدل عقدة النقص تبرز عقدة التفوق والاستعلاء، وبدل عقدة العجز والاستسلام تبرز عقدة الجبروت، وبدل انعدام المكانة يحل الشعور بالتفرد والاستثناء.

وهنا يظهر تهديد جديد لهذه الانتفاضة الجماهيرية وهو غياب الأطر الفكرية والسياسية الموّجهة لهذا الشعور المتنامي، بالعظمة مما قد يجعل الجماهير السائدة المسلّحة غالبًا إلى موروثاتها النفسيّة فتستجلب ذات النماذج التي ثارت عليها. أو كما يقول المؤلف "فالإنسان المقهور الذي حمل السلاح دون ثقافة سياسية كافية توجه وضعه الجديد؛ قد يقلب الأدوار في تعامله مع الجمهور أو من هم في إمرته؛ فيتصرف بذهنية المتسلط القديم؛ يبطش، يتعالى، يتعسف، يزدري، وخصوصًا يستغل قوته الجديدة للتسلط والاستغلال المادي والتحكم بالآخرين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.