عرفت البلاد العربية، والمغرب خاصة حركة احتجاجية متعاقبة (احتجاجات الأساتذة المتدربين- الأطباء- المهندسين- خريجي البرنامج الحكومي- المعطلين…). لكن الفعل الاحتجاجي سيتطور في المغرب ويتخذ مسار آخر، حيث سيتبلور وعيا جماهيريا منظما ومؤطرا تحكمه المصلحة الجماعية للمحتجين، فظهر ما يسمى بالحراك الشعبي – احتجاج منظم أكبر عددا وتنظيما – في كل من (الحسيمة- جرادة- زاكورة…)، وهو مظهر من مظاهر الاحتجاج السلمي الذي نزلت فيه الجماهير للساحات للمطالبة بالحقوق أو بالإصلاحات، وكان من بين الشعارات المهيمنة على الحراك شعار (حرية، كرمة، عدالة اجتماعية).
ويرجع المهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي أسباب الحراك إلى الأزمة المركبة القائمة في المغرب والمتعددة الأبعاد (السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، وهو ما ساهم في ظهور احتقان شعبي حرك الجماهير في ربوع البلاد للنزول إلى الشوارع احتجاجا على الوضع القائم، وعلى فشل الحوار الاجتماعي وتميع الفعل السياسي، وكذا الارتجالية والغموض الذي يطبع المشهد السياسي، وما رافق ذلك من ارتفاع للأسعار، والتنزيل القصري للقرارات الحكومية بدون اشراك مختلف الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني، وفرض أمر الواقع عليه بسلطة القوة وقوة السلطة دون النظر في المصلحة العامة، وهو ما أجج غضب المواطنين باعتباره إجحاف في حقهم، الأمر الذي نتج عنه بزوغ حراك احتجاجي قوي ومنظم.
إن كلمة الجماهير ظاهرة جديدة كما يقول غوستاف لوبون في كتاب سيكولوجية الجماهير. ومن يتتبع الوعي السياسي عند الجماهير العربية يلاحظ تطورا رهيبا في ظرف زمني وجيز، وكيف صار يزحف هذا الوعي زحف النار في الهشيم. ويلاحظ أيضا كيف تمكنت الجماهير في وقت قصير من بلورة أفكارها في مواقع التواصل الاجتماعي، ورص صفوفها والنزول للشوارع. ويرجع هذا الفعل إلى وجود قواسم مشتركة تجمعها بعيدا عن توجهاتها السياسية والدينية والحزبية.
الجماهير صارت قادرة على قيادة نفسها، ولم تعد تنتظر من يؤطرها أو يقودها. وغير خفي على العيان أن الصحافة الصفراء وإعلام الصرف الصحي يلهثون وراء معرفة من يحرك الجماهير للتفرد بالحدث |
وقد حدث ذلك دون وجود قادة تجيش الجماهير وتؤطرها، وتدفعها إلى الخروج إلى الساحات. ويحفل التاريخ بنماذج أثرت بخطابها على الجماهير ودفعتهم إلى الانخراط في الفعل الاحتجاجي (هتلر، وماوتسي تونغ، وتشي غيفارا، وغاندي..). وقبل أن نجيب عن السؤال الذي انطلقنا منه، لابد بداية أن نصحح فكرة خاطئة عند مؤسسة الدولة، والتي تعتبر الجماهير دائما خطرا يجيب إبعاده والقضاء عليه. وأن الجماهير تسعى دائما إلى الفوضى (الفتنة) وتهدد أمن الدولة، وهي فكرة لا سند لها. لذلك تختار المقاربة القمعية كحل لهذه الظاهرة، وهو ما يزيد من تهييج الجماهير، وزيادة غضبها.
إن الجماهير حسب غوستاف لوبون حساسة ضد لغة رجل السياسة، وأي عبارة صادرة عنه يثور عند سماعها. وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، نجد بعض العبارات التي كان يواجه بها رموز الحراك منها اللاوطنية والانفصال وغيرها. وكلها ملفوظات ساهمت في تأجيج غضب المحتجين، لأنها تفقد الحراك صبغة المشروعية، وتحد من التضامن الشعبي وتوسيع رقعته.
وقد سخرت مؤسسة الدولة أجهزتها للبحث عن الدينامو الذي يحرك الجماهير، ويدفعها إلى النزول إلى الشارع، لكن تفشل في كل محاولة. بعيدا عن التفكير الملل، إن فالجماهير صارت قادرة على قيادة نفسها، ولم تعد تنتظر من يؤطرها أو يقودها. وغير خفي على العيان أن الصحافة الصفراء وإعلام الصرف الصحي يلهثون وراء معرفة من يحرك الجماهير للتفرد بالحدث وخلق البوز.
والجواب عن هذا السؤال الإنكاري لا يتطلب من الجميع سوى قراءة الأوضاع قراءة موضوعية وربط الأسباب بمسبباتها لمعرفة من يجيش الجماهير. إن الذي يحرك الجماهير هو الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، ولا أحد ينكر وجوده، إن الجماهير يحركها الظلم والفقر والحاجة. ولا ننكر أن الإعلام المدفوع أيضا ساهم وبقوة في تجيش الجماهير، بسبب تبخيسه للحركات الاحتجاجية بربع المغرب واتهام الوجوه البارزة فيها، مما دفعهم إلى الرد المضاد، عبر توسيع رقعة الاحتجاج وتطوير آلياته لنزع الاعتراف.
إننا ندعو في هذا المقال إلى تخليق الفعل السياسي، والإنصات لنبض الجماهير بعيدا عن المقاربة القمعية التقليدية، وأن نضع الوطن ومصلحة المواطنين العامة نصب أعيننا. كما ندعو إلى إيجاد مقاربة جديدة ننظر من خلالها إلى الجماهير باعتبارها قوة ومكسبا للوطن، بعيدا عن العاطفة والمصلحة الضيقة، لأن الهياج الشعبي قوة لا يمكن السيطرة عليها، وأن أي انزلاق سيؤدي إلى الخراب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.