شعار قسم مدونات

فتح مكة.. دروسٌ في السياسة والقيادة

blogs الكعبة

تقترب أحداث السيرة النبوية من حياتنا المعاصرة أحيانًا حتى التماس، فتكاد ترى شخوصها تهز منكبيك، وتلوي عنقك ليًا لتلتفت إلى الدروس والمعاني والخبرات، وكأنهم يسألوننا: ألم نخبركم؟ ألم نكابد هذه الحياة لنعلمكم؟ ورغم أن البعض يرى أحداث السيرة النبوية نسقًا مستقلًا بذاته، لا يجوز إسقاط أحداثه على غيره، أو تطبيق قواعده على ما سواه، فإني أرى عكس ذلك؛ فسيرة الجماعة المسلمة الأولى هي مسيرة الإسلام المُعنَّى بين مكر أعدائه وانتباه أو غفلة أصحابه، وهي مسيرة لم تنقطع يومًا.

الدرس الأول: المرونة

كانت الجزيرة العربية تعرف حرمة البيت الحرام الذي يلقى فيه الرجلُ قاتل أبيه فلا يتعرّض له، فتوقعت قريش أن يكون محمد صاحب الرسالة من ربّ البيت الأكثر تعظيمًا وحرصًا على عدم الإحداث فيه بهرج أو قتل. وقد أغرت هذه القناعة بعض مرتكبي الجرائم الوحشية في حق المسلمين الأوائل في مكة إلى اللجوء إلى الكعبة، والاحتماء بها، ليس إيمانًا بحرمتها إذ كانوا يعذبون الرعيل الأول من المسلمين من سنوات قلائل في باحتها. وإنما تيقنًا من أن منهج محمد صلى الله عليه وسلم وسابق أخلاقه معهم سيمنعانه من القصاص منهم داخل الحرم.

أصحاب الدعوات قد يحتاجون إلى استثناء واجب ومرونة منضبطة عند تطورهم من مرحلة إلى مرحلة، فالإصلاحي قد يحتاج أن يكون ثوريًا في طور، والثوري قد يكون إصلاحيًا في طور آخر..

وهنا جاء استثناء الضرورة؛ فرفع الله عز وجل الحرمة عن مكة ساعة من النهار، ليعطي القائد العام للجيش المنتصر الإذن بملاحقة هؤلاء المجرمين والقصاص منهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فإذا اكتملت عملية التطهير عادت حرمة مكة كسابق عهدها. يقول ابن هشام في سيرته أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعد يومين من الفتح فقال: "يَا أَيهَا النَّاسُ، أن اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْم خلق السّماوات وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ  إلى  يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أن يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا. أَلَا، ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ: أن رَسُولَ اللَّهِ (قَدْ) قَاتَلَ فِيهَا، فَقُولُوا: أن اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ".

ولعلَّ هذا الاستثناء الإلهي ألقى في روع الجماعة الأولى من المسلمين أن قواعد المنهج الذي تقيدوا به في عهد الاستضعاف قد تغيرت؛ وأنّ مرحلة تقبل الظلم والعسف وانتهاك الحرمات والممتلكات قد ولّت دون رجعة. فالمسلم في حال التمكين مسؤول ليس فقط عن سلامة شخصه ولكن عن سلامة المجتمع كلّه، ومن ثمّ فإنَّ غضّ الطرف عن الفاسدين والقتلة والمخربين لم يعد مقبولًا، والتشريعات التي لم تحملّهم مسؤولية اجتثاث طواغيت مكة سابقًا قد تبدلت بأمر إلهي للدرجة التي أحل لهم فيها الحرم.

والدرس هنا أن أصحاب الدعوات قد يحتاجون إلى استثناء واجب ومرونة منضبطة عند تطورهم من مرحلة  إلى  مرحلة، فالإصلاحي قد يحتاج أن يكون ثوريًا في طور، والثوري قد يكون إصلاحيًا في طور آخر وهذا استثناء لا يمس أصالة المنهج، لا سيما إذا كان استثناء للضرورة.

الدرس الثاني: الحسم

حرص النبي صلى الله عليه وسلّم في الساعات الأولى من فتح مكة على ترسيخ حقيقة سيطرته على مقاليد الأمور، وأن سلطان المسلمين سلطان حازم لا يستكين لمحاولات تمرير الوقت لجمع شمل فلول الكفر، ولا يُدفع إلى فخ التردد والعاطفية. وهكذا شَرَع القائد الملهم صلى الله عليه وسلم في بسط إجراءات السيطرة مبكرًا جدًا؛ فأرسل بلال بن رباح  إلى  عثمان بن طلحة في بيته ليأخذ منه مفاتيح الكعبة ويضعها بين يديه.

وذلك ليعلم القاصي والداني أن سلطة إدارة البيت الحرام قد آلت فعلًا إلى المسلمين، وأنَّ حكم محمد بن عبد الله ليس حُكمًا صوريًا بل حكمًا متنفذًا راسخًا. فما كان من عثمان إلا أن صرف بلالًا مماطلًا ومسوفًا، لكن وبينما هو وأمه يتجادلان في الأمر فوجئ بصوتي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب يصديان في صحن الدار يستعجلانه تسليم المفاتيح. وهنا يطيب لي أن اتساءل كم من الوقت استغرقه النبي صلى الله عليه وسلم بين عودة سيدنا بلال خالي الوفاض وبين تكليف الوزيرين الأولين في الدولة بإنهاء المهمة؟

شهدت غزوة فتح مكة جوًا مشحونًا هيّج في نفوس الصحابة مشاعر متباينة؛ فبينما غمرت المهاجرين مشاعر حنين جارفة، تأججت في نفوس بعض الأنصار رغبة في الثأر من قريش بؤرة تجييش الجيوش وتأليب القبائل.
شهدت غزوة فتح مكة جوًا مشحونًا هيّج في نفوس الصحابة مشاعر متباينة؛ فبينما غمرت المهاجرين مشاعر حنين جارفة، تأججت في نفوس بعض الأنصار رغبة في الثأر من قريش بؤرة تجييش الجيوش وتأليب القبائل.

هل كان الأمر يستحق هذه السرعة في الحسم؟

تأملنا في هذا المشهد يجعلنا نفهم أن أولوية القيادة النبوية لم تكن – حينئذ – مشاعر عثمان بن طلحة ولا أمه ولا قبيلته جميعًا، وإنما كانت للحظة الفارقة، لقرار الحسم الذي يوطد أركان الدولة ويقوض تحركات الفتنة ويحافظ على مكتسبات الفتح، فالتباطؤ قد يحيي أطماع من في قلبه مرض ويغري بالانقلاب قبل التمكين.

الدرس الثالث: الاحتواء

شهدت غزوة فتح مكة جوًا مشحونًا هيّج في نفوس الصحابة مشاعر متباينة؛ فبينما غمرت المهاجرين مشاعر حنين جارفة، تأججت في نفوس بعض الأنصار رغبة في الثأر من قريش بؤرة تجييش الجيوش وتأليب القبائل. حتى خرج بعضهم عن حالة النجاح التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلّم بتجنب إراقة الدماء فقال سعد بن عبادة قائد الأنصار وحامل راية جيش المسلمين "الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا" فعزل فورًا من منصبه.

في مثل هذا الجو المفعم، وبعد تنحية قائد الأنصار عن وظيفته، يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرارًا أخطر بتوزيع غنائم غزوة حنين على نفر من أهل مكة وحرمان الأنصار. فاهتاجت النفوس أكثر وكان النصيب الأكبر لشباب الأنصار يقول ابن حزم في كتابه جوامع السيرة "فكان لشباب الأنصار في ذلك كلام لم يرض به أشياخهم ولا خيارهم". وتنقل القيادات الوسيطة مقالة الشباب وغضبتهم  إلى  النبي صلى الله عليه وسلم بكل أمانة وصدق.

فما بحث النبي صلى الله عليه وسلم عن مصدر الكلام ولا مبتدئه، وما اتهمهم بقصور النظر ولا قلّة الخبرة، وما عنَّفهم ولا خوَّنهم صلوات ربي عليه وما عاتب سعدًا على عدم المبادرة بالدفاع عن وجهة نظر القيادة ردًا لغيبتها، وما طالب بوضع من رأى هذا الرأي من الشباب تحت الوصاية الأبوية للقيادات. وإنما كان منهجه صلى الله عليه وسلم تفهم ما ذهبوا إليه، ورفعهم فوق ذلك درجات فقال: "أمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ؛ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَآسَيْنَاكَ". ثم ضمّد جراح أرواحهم، ومسح وجع قلوبهم بصنيع حقيقي وليس بمجرد كلمات للتخدير فقال: "أفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أن يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ  إلى  رِحَالِكُمْ؟".

هل انتهى الدرس النبوي؟

لم ينته بعد، فحركة شباب الأنصار الاحتجاجية التي واكبتها هزيمة هوازن وثقيف في حنين نتيجة الانجرار خلف القائد الشاب مالك بن عوف وضربه عرض الحائط بنصائح دريد بن الصمّة القائد التاريخي للقبيلة، لم تدفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى فقد الثقة في شباب دعوته، أو التريث في توسيدهم سدة القيادة. فتروي لنا كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل على مكة بعد نزوحه عنها الأموي عتاب ابن أسيد الذي أسلم يوم الفتح وهو ابن ثمانية عشر عامًا، رغم أن مكة تعج حينئذ بكبار الأشراف والسادة كأبي سفيان بن حرب والعباس بن عبد المطلب وغيرهم.

وهكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم درسًا جديدًا في التعامل مع هذه الشريحة الهامة التي قامت على اكتافها الدولة الإسلامية من حسن استماع لمطالبها، وتوجيه لطاقاتها نحو المثل العليا، وتوظيف المميز منها في أمور القيادة دون أن تتأثر القناعة الشخصية للقائد بالظروف الآنية أو الطبيعة التقليدية لشريحة من الشرائح السنية أو القبلية أو غير ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.