منذ اللقاء الأول، تكون أول 20 ثانية كافية للحكم على الآخر وتكوين انطباعاتنا عنه وعن ثقافته ومستواه الاجتماعي والثقافي، من خلال اللغة التي يتحدث بها.. فهي تكسب المتحدّث كاريزما معينة وتؤطّره داخل قالب ثقافي واجتماعي محدد، ومن هذا المنطلق يتخذ العديد من الناس قرار تغيير لكناتهم أو لغاتهم الأم إلى لغة البلد التي يقيمون فيها. على سبيل المثال، غيرت مارغريت ثاتشر لهجتها التي تميز سكان مقاطعة لينكولنشير إلى اللغة التي تتحدث بها في الأوساط الثقافية في بريطانيا، باعتبارها أكثر رقيا ودبلوماسية. السوري في تركيا، والفلسطيني في ألمانيا، والهندي في الخليج، أغلبهم سيتحدثون لغات البلاد التي يقيمون فيها.
إن مهارة إتقان لغة أو لكنة ثانية تدل على المرونة والتكيّف والذكاء الاجتماعي. لكن، أفزعني ما رأيته لدى العرب الذين يعيشون في بلاد المغترب أوروبا وأميركا وكندا، بعد أن تخلى العديد منهم عن تعليم اللغة العربية لأبنائهم وبدلوا جلودهم حيث جعلوا لغة البيت التي يتواصلون بها بين بعضهم هي لغة البلد التي يعيشون فيها، بحجة أن اللغة العربية لن تفيدهم شيئا في المستقبل، أخذوا معهم توابلهم الشرقية ووصفات أمهاتهم وأراجيلهم إلى منازلهم الجديدة بينما وأدوا لغاتهم بأيديهم حينما بدؤوا بالتواصل باللغة الجديدة بين بعضهم لتسريع الاندماج، وكأن اللغة مجرد أصوات تخرج إلى الهواء وتختفي.
بدأ شغفي بجذور وتأثير اللغات عندما درست مادة علم اللغة في السنة الجامعية الرابعة، مذهل كيف أن اللغة كالجينات تنتقل وتتطور وتورث وتتغير وتكتسب شكلا جديدا وتتزاوج مع لغات أخرى، لكنها لا تختفي! والمدهش أيضا ما أثبتته الدراسات الحديثة أن اللغة تؤثر على طريقة تفكيرنا. هناك قسم لا بأس به ما زال يتمسك بهويته ولغته حرصا على شد أواصر الحبل السري اليتيم الذي يربط الجيل القادم بجذوره العربية. لكن حديثي عن نسبة لا يستهان بها من الآباء الذين يرفضون رفضا قاطعا تعليم اللغة العربية لأبنائهم، وهم لا يختلفون عن المستعمر الذي يمنع السكان الأصليين من التحدث أو الكتابة بلغتهم، ولكن تختلف الغاية، المستعمر يريد محو حضارة السكان الأصليين لتندثر.. أما المغترب، فيمحو ذكرياته بيديه ويلقي بتاريخه إلى التهلكة!
لوحظ أن من يتقنون لغاتهم الأم يتمكنون من تعلم اللغات الجديدة بسرعة. لغتك الأم ليست جواز سفر تمزقه لتحصل على آخر.. ولا مادة دراسية تكرهها وتقرر حذفها من المنهاج لتستبدلها بغيرها |
اللغة تاريخ وجذور وروح وليست مجرد أصوات فقط.. يقول الإمبراطور الروماني شارلمان "التمكن من لغة أخرى، هو بمثابة الحصول على روح ثانية"، روح تبدأ من لحظة انسياب الأفكار مع حركة الأصابع والقلم من اليمين إلى اليسار.. روح تتجلى عند ممارسة اللغة وإدراك جمالها، والقدرة على تكوين التعابير ومزجها.. لغة تحلم بها في مناماتك وتتلفظ بها بعفوية عند المحادثة الطويلة أو الغضب والغزل والفرح.. وتتخيل جمال حروفها.. وحروف علتها وأدوات استفهامها وحروف العطف والاستثناء والرنة الموسيقية للتنوين والتأنيث.
كيف سيأتي جيل ملامحه وحروف اسمه وأسماء أجداده كلها عربية بينما أقصى ما يعرفه من العربية هو كتابتها بالأحرف اللاتينية. وعند أول محادثة مع أقاربه تجده يتكلم بركاكة ويكسر الحروف تكسيرا ويجتر المعنى بصعوبة.. ما الضير في أن تتحدث في الخارج بلغة البلاد وتتقنها ثم تخلع قناعك عندما تعود إلى منزلك؟ إن ما تحاول إضافته من بصمة في هذا العالم ما هو إلا انعكاس لمخزونك من الثقافة والخبرات، بصمتك وأنت تستند على أساسات قوية متينة لن تكون بنفس القوة عندما تكون أساساتك مستوردة، ستحاول أن تكون نسخة مقلدة مشوهة لا تشبه نفسها.
حيث لوحظ أن من يتقنون لغاتهم الأم يتمكنون من تعلم اللغات الجديدة بسرعة. لغتك الأم ليست جواز سفر تمزقه لتحصل على آخر.. ولا مادة دراسية تكرهها وتقرر حذفها من المنهاج لتستبدلها بغيرها. جميع من عرفتهم في كندا من المهاجرين من أصول يابانية أو لاتينية أو أوروبية يعلمون أبناءهم لغاتهم الأم رغم وجودهم في كندا منذ عشرات السنين، يذهب الأولاد إلى مدرسة خاصة يوم العطلة لتعلم لغتهم الأم وإتقانها تحدثا وكتابة.
تعرفت على عائلة كندية من جذور أوكرانية، الأبناء يتحدثون الأوكرانية التي ورثوها عن والدهم الذي ولد في كندا وتعلمها أيضا منذ صغره، ذكرت هذه العائلة تحديدا كمثال لأن الأبناء جميعهم من حملة الشهادات العليا وناجحين في حياتهم كما أن والدهم طبيب شهير، لم تكن لغة البيت عائقا عن اكتساب اللغة الإنجليزية ولم تقف في طريق نجاحهم أبدا.
الطريق الي الشهادة الجامعية والاندماج لا يبدأ من تضييع اللغة وعدم إتقانها، ولا أقصد بإتقان اللغة بمن يتقن رسم الحروف والهمزات ويطبق القواعد بحذافيرها.. يكفي بأن يستمتع بالقراءة والكتابة، وينهل من آدابها ويتحدثها ويلتقط معاني المفردات ويفهم مرادفاتها العربية.. مرعبة رؤية أجيال كثيرة في بلاد المهجر لن يقرؤوا كتبا عربية ولن يتصلوا بتاريخهم.. ولن يحادثوا أجدادهم ولا أقاربهم، ولن يفهموا النكات المحلية الصغيرة، ولن يقرؤوا القرآن ولن يفهموه، والأسوأ، معرفة أن ذلك كله لا يهمهم أصلا!
لا نتكلم عن لغة تتحدث بها طائفة صغيرة من أصل 7000 لغة محكية في يومنا هذا.. بل نتكلم عن لغة تحتل المرتبة الخامسة من أكثر عشر لغات في العالم استعمالا.. أيا كان المكان الذي غادرته وتركته خلف ظهرك هربا إلى حياة أفضل.. سواء كان وطن تمزقه الحروب أو ينخر فيه الفساد أو يأكله الفقر.. الهرب إلى المستقبل لا يأتي بحقائب فارغة.. تقول رضوى عاشور في الطنطورية "ذاكرة الفقد كلاب مسعورة تنهش بلا رحمة لو أطلقت من عقالها".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.