من المعروف أن النظام السياسي في إسرائيل مكوّن من فسيفساء من الأحزاب والمعسكرات السياسية والمختلفة الانتماءات والاتجاهات ويعود هذا الأمر إلى الانقسامات القومية (يهود ـ عرب) والدينية (أرثوذوكس، تقليديون، متدينون، عاديون) والطائفية (استكناز وسفاراديم) والاقتصاديةـ الطبيقية والسياسية الأيديولوجية (اشتراكية في مقابل ليبرالية) وإلى غير ذلك وبالتالي فإن حجم التسييس الذي يميّز المجتمع الإسرائيلي وعمقه، لم يترك الجيش الإسرائيلي حصيناً في وجه هذه التيّارات والمسارات، ممّا شكّل نوعاً من مستنبت إيديولوجي لتبلور نخب عسكرية تتمتع بطابع ثقافي نوعي من شأنه أن يشيع رموز القوة الاستعراضية المتشدّدة التي تغري أصحابها في النهاية لخوض طموحات سياسية وأيديولوجية متمادية.
الأزمة الحادة التي يعاني منها النظام السياسي في إسرائيل بعد تصاعد حدة الخلافات السياسية بعد استقالة وزير الدفاع أفغدور ليبرمان، بسبب سياسة الحكومة الإسرائيلية في التعاطي مع ملف غزة، وقبولها بوقف إطلاق النار في ظل النصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي، كل ذلك فتح الباب أمام التساؤلات كيف نشأة المجلس الأمني المصغر (الكابنيت) وكيف تطور، ولماذا تحول لأزمة بعد ما كان مطبخ سياسي يدير العملية السياسية والأمنية في إسرائيل؟
هناك مرحلتان أساسيتان عادة في عملية صنع القرارات داخل إسرائيل، المرحلة الأولى يتم فيها رسم الخطوط الأساسية وبلورتها وصنع القرارات. أما في المرحلة الثانية فتجري فيها الموافقة الرسمية على هذه القرارات. وعادة في المرحلة الأولى تضع أجسام (هيئات) غير رسمية (مطبخ سياسي) السياسة والقرارات المراد اتخاذها وترسمها، ثم تبدأ المرحلة الثانية عندما توضع هذه القرارات على جدول أعمال الحكومة للموافقة عليها. ونادرًا ما يحدث أن يكون الجسم الذي يضع السياسة ويرسم القرارات فيما يخص الأمن القومي هو الجسم نفسه الذي يوافق عليها. فهناك ميل شديد لدى رئيس الحكومة في النظام البرلماني ورئيس الدولة في النظام الرئاسي إلى إشراك عدد قليل جداً من الأشخاص في رسم قرارات الأمن القومي وبلورتها وصنعها.
يعتبر لويس برونستاين من أوائل الذين أشاروا إلى الدور المهم للنشاطات والاجتماعات التي تجري خارج المؤسسة الرسمية في عملية صنع القرارات في إسرائيل حيث أطلق عليها "كابنيت المطبخ" |
بن جوريون مؤسس الدولة الإسرائيلية وجيشها أكد أن الجيش لا يقرر السياسة ولا النظام ولا القوانين، ولا يقرر كذلك شأن الحرب والسلام فالجيش وفق تصور بن جوريون هو الذراع التنفيذية للحكومة بشأن الأمن والدفاع، في حين أن صلاحيات الحكومة الإسرائيلية هي تحديد الخطوط العريضة السياسية تجاه الداخل والخارج، وإعلان الحرب وصنع السلام بل وتنظيم الجيش ذاته. وفى مواجهة نموذج الدولة -القلعة حاول بعض الباحثين والأساتذة الإسرائيليين تقديم نموذج "الشعب المسلح" لتشخيص العلاقات بين الجيش والمجتمع في حالة مشاركة المواطنين في الجهد العسكري عند أعلى نقطة ممكنة، وهذا النموذج هو الأقرب من وجهة نظر هؤلاء الباحثين للدولة الإسرائيلية، فهذه الدولة في حالة حرب مستمرة واستعداد دائم للحرب وهو ما عبر عنه قانون الخدمة العسكرية في أغسطس عام 1949، والذي ركز على أن الهدف منه إعداد الشعب كله للقتال عند الضرورة.
وما يميز عملية صنع القرارات في الأمن القومي، من عملية صنع قرارات في مجالات أخرى، هو السرية. ويمكن القول إنه كلما ازدادت أهمية الموضوع الذي يتخذ القرار بشأنه، يقل عدد المشاركين في صنعه. وعادة ما يعمل رئيس الحكومة على تأليف مجموعة قليلة الأشخاص، معظمهم غير أعضاء في الحكومة، للمشاركة معاً في وضع السياسة ورسمها و"طبخ" القرارات في "مطبخ" رئيس الحكومة ثم يضعها على مائدة الحكومة كي "تأكلها" وتجيزها. وفي كثير من الأحيان يعالج الباحثون عملية صنع القرارات من الناحية المؤسسية الرسمية، ولا يغوصون أو يتطرقون إلى الاجتماعات والنشاطات التي تجري قبل إجازة الحكومة تلك القرارات، فلا يبحثون عن "الصندوق الأسود" في عملية صنع القرارات، وعما يدور فيه من فاعليات، فتكون نقطة انطلاقهم عملياً نقطة النهاية في عملية صنع القرارات وليس بدايتها.
يعتبر لويس برونستاين من أوائل الذين أشاروا إلى الدور المهم للنشاطات والاجتماعات التي تجري خارج المؤسسة الرسمية في عملية صنع القرارات في إسرائيل حيث أطلق عليها "كابنيت المطبخ". وأشار برونستاين إلى أن "كابنيت المطبخ" يعود إلى مرحلة أول رئيس حكومة في إسرائيل دافيد بن غوريون، الذي درج على رسم الخطوط الأساسية لسياسته في الأمن القومي. ويمكن تحديد مراحل تطور الكابنيت الإسرائيلي في النقاط التالية:
مطبخ بن غوريون
كان دافيد بن غوريون يعتقد أن الحكومة ليست المكان الملائم لوضع السياسة ورسمها فيما يتعلق بالأمن القومي، لذلك استعمل الحكومة مؤسسة للموافقة على سياسته في شأن الأمن القومي التي كان يرسمها في مطبخه. لم يكن مطبخ بن غوريون ثابتا طيلة فترة رئاسته للحكومة، ولكن يمكن الإشارة إلى النسبة الكبيرة من القيادات العسكرية التي كانت تشارك في مطبخه، كان من بينهم موشيه ديان رئيس الأركان، ورؤساء أركان آخرون، ورؤساء المخابرات العسكرية (أمان)، وإيسر هرئيل رئيس جهازي الموساد والمخابرات العامة (الشاباك)، ونحميه أرغوف سكرتيره العسكري والجنرال موشيه كرمل، علاوة على شاؤول أفيغور خبير الأمن في حزب مباي الحاكم، وشمعون بيرس الذي شغل فترة طويلة منصب المدير العام لوزارة الدفاع، ويتسحاق نافون سكرتيره السياسي.
استمع بن غوريون إلى آراء جنرالات الجيش وبلور سياسته في مطبخه واتخذ القرارات المهمة التي تخص الأمن القومي، ثم عرضها على الحكومة للموافقة عليها. ومن الأمثلة المعروفة على أسلوب عمله هذا، إعداده العدوان على مصر في سنة 1956. فقد اتخذ بن غوريون قرار الحرب في مطبخه، وظل هذا القرار سرياً لا تعلم به الحكومة الإسرائيلية، إلى أن استدعى الحكومة للموافقة على شن الحرب قبل بدء التعبئة العامة للجيش الإسرائيلي بساعات قليلة.
مطبخ غولدا مائير
يُعتبر "مطبخ" غولدا مائير الأكثر شهرةً من بين "مطابخ" رؤساء الحكومات الإسرائيلية، وكان يجري فيه بحث مواضيع مهمة تتعلق بالأمن القومي ورسم السياسة وبلورتها تجاه هذه المواضيع قبل عرضها على "لجنة الوزراء لشؤون الأمن" والحكومة. ودرج السكرتير العسكري لغولدا مئير على تنسيق عقد هذه الاجتماعات التي كانت تجري في بيت غولدا مئير (أسبوعياً عادة وفي يوم السبت مساء). بيد أن كبار ضباط الجيش المشاركين في هذه الاجتماعات استعانوا بالخرائط لعرض العمليات العسكرية المقترح القيام بها وشرحها. وجرت الاجتماعات في مطبخ غولدا مئير بشكل غير رسمي وبسرية تامة ومن دون خشية حدوث تسريبات، ما أدى إلى عرض القضايا المطروحة ونقاشها بانفتاح وحرية تامة من المشاركين حتى وإن كانت هناك خلافات جدية في وجهات النظر بين صفوف المؤسسة العسكرية.
وتمتعت المؤسسة العسكرية بنفوذ واسع في رسم السياسة التي تخص الأمن القومي في "مطبخ" غولدا مئير. فقد اقترب عدد العسكريين عادة من نصف عدد المشاركين في الاجتماع وشاركوا، باعتبارهم خبراء في الأمن، أكثر من غيرهم في الحديث في الاجتماعات. أضف إلى ذلك أن الوزراء المهمين المشاركين في المطبخ (دايان وألون وغليلي) كانوا سابقا جنرالات في الجيش، وكانت ثقافتهم عسكرية ومنهج تفكيرهم عسكرياً في الأساس. ولعل الأهم من ذلك أن المؤسسة العسكرية ـ .
مطبخ إسحاق رابين
شارك في اجتماعات "مطبخ" إسحاق رابين مجموعة ثابتة من الأشخاص وأخرى غير ثابتة. شملت المجموعة الثابتة إلى جانب إسحاق رابين كلاً من وزير الخارجية يغآل ألون ووزير الدفاع شمعون بيرس ورئيس الأركان وعددا من جنرالات الجيش من بينهم رئيس المخابرات العسكرية (أمان) والسكرتير العسكري لرئيس الحكومة والمدير العام لديوان رئيس الحكومة. وكانت تعقد اجتماعات "المطبخ" أسبوعياً في مكتب رئيس الحكومة ويجري فيها بحث الموضوعات المتعلقة بالأمن القومي ورسم السياسة وبلورتها تجاه القضايا المطروحة وتشكيل إجماع حولها، ليقوم بعد ذلك رئيس الحكومة بعرض ما اتفق عليه على لجنة الوزراء لشؤون الأمن والحكومة. وفي بعض الأحيان كانت بعض القضايا المهمة والحساسة تناقش ويتم رسم سياسة معينة تجاهها واتخاذ قرارات في شأنها في "المطبخ" فقط، من غير طرحها البتة على لجنة الوزراء لشؤون الأمن أو على الحكومة.
بعد مرحلة رابين تحول المطبخ الأمني، إلى جزء من الحكومة الإسرائيلية، يتم الاتفاق على أعضائه ضمن الائتلاف الحكومي، بمعني أنه عضوية الكابنيت أصبحت وزراء من الحكومة وليس كما كان في السابق يقتصر على رؤساء الأجهزة الأمنية وقادة الجيش. هذا الأمر حول الكابنيت لساحة صراع داخلي بين الوزراء ورئيس الوزراء، وهو ما حدث خلال الأيام الأخيرة، بعد تفجر الخلافات بين أعضاء المجلس الأمني المصغر حول كيفية التعامل مع غزة، ما دعا ليبرمان وزير الدفاع لتقديم استقالته على خلفية القبول بالتهدئة مع حركة حماس بغزة بعد استهداف الحافلة على حدود غزة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.