كمرآة تعكس الحقيقة، الحقيقة الماثلةُ أمام المرآة بكل أشكالها وأبعادها، ما تعكسه المرآة هو صورةٌ حقيقية للواقع، صورةٌ لا تَحتمل التَزييف والتجميل والتقبيح. الواقع الحياتيّ مليءٌ بألوان وأشكال شتّى ومُتنوعة، والاختلاف في الشكل لا يَعني إطلاقاً اختلالاً في الموازين ونذير شؤم، هذه الحقيقة البديهية، تكاد تندثر من الأذهان، لتحلّ مكانها "حقيقة الشكل واللون الواحد" وما الاختلاف والتغيّر إلا شرٌ وبلاء؟! بدايةً المرآة مُجرمة! جريمتها واضحة، كوضوح أيُّ شيء يُرى من خلالها، جريمتها هي الوضوح الجليّ والحقيقة الفادحة!
أيتها المرآة، لماذا أنتِ واضحةً بكل ما تحمله الكلمة من فظاعة؟ عليكِ أن تنتهي عن وضوحك، وتتبني التزييف والتجميل والتقبيح، وتتماهي مع الواقع كيفما أراد! أيها الكاتب، الصحفي، الإعلامي، أنت مُجرم.. مُتهمْ.. جُرمك وتُهمتك هي: تشويه الواقع. الواقع الجميل.. الرائع.. وأنت بكتاباتك وكلماتك تشوّهه! باتهامك لسنا واهمون أو مُدّعون، العالم جميل وبخير. حسناً هو ليس كذلك بطبيعة الحال، ولكن هذا ما نُريد أن نُصدقه، ونراه ونشعر به، ولو كان محضُ وهم! نحنُ نتواطأ في تجميل القبيح والتستّر عليه، القبيح الذي تفضحهُ أنت بكل جسارة ولؤم، تأتي وتوضحهُ بل وتفضحهُ برأس قلمك، أنت مُزعج ومُربك للمزاج العام وسوداويّ.. حسناً نحنُ نكرهك.
لماذا نكره المرآة التي تعكس بصدق حقيقتنا كما هي؟ لا بل نجتهد لكسرها وتحطيمها، أنت أيّها الكاتب تهمتك تقبيح الواقع. |
نكره تعديك على قُدسية الجمال الذي نرزح تحت وطأته، وجُرأتك في فضحِ قُبح الجوهر المتواري وراء الحُجب! نحنُ نعشق الأوهام، ونرتاح في ظلالها، نُغذيها ونُدللها حتى تتضخم وتملأ المكان، والتشويه جاء من الوهم، نحن واهمون بأن الحقيقة والمصداقية هي بخلاف ما تكتب! ببساطة وبلا لفّ ودوران؛ نحنُ نُريد دفء وطمأنينة الوهم مُقابل قلق وزمهرير الحقيقة. مَن يحتمل أن يكون "كَريهاً ومنبوذاً"؟ مَن يحتمل أن يكون مرآةً تعكس الحقيقة؟ لنعترف بأن الحقيقة غير مُحببة للبعض في كثير من الأحيان، ولكن لابد من وجود "مرآة" تجعلنا نرى الأشياء كما هي..
في هذا السياق، المرآة هي ذلك الشخص "الكريه والمنبوذ" – غالبا ً- الذي يُمزق حُجب الوهم والتزييف برأس قلمه وبكلماته الحادّة. الحياة والواقع خليط من الإيجابيات والسلبيات، وما أن يتناول أحدنا "ظاهرة سلبيّة" حتى يُتهم بإقصاء ما دونها من إيجابيات وجماليات! يُريدون منّا أن نتحول لماسحات ضوئية تكشف كل شيء بنفس اللحظة، لذلك علينا أن نكتب عن كل شيء تماماً حتى لا نُوصمّ بتهمة "التشويه"، فلا نتناول ظاهرةً سلبية بعينها، فهذا الأمر يجعل من المشهد العام سيء، وهذا ما لا يُريده المُجتمع..
هذا المجتمع يُصرّ على الحق في إبقاء جمال مظهره وشكله الخارجي، حتى لو أنه في حقيقته أسوأ مما نتصور. المُتهم بتشويه صورة بلده، كُلما عَلا صوت نقدهُ واحتجاجه، يدلّ على حقيقة مفادها بأن بلادنا لا تُمانع وجود السوء والقُبح، بقدر ما تُمانع إظهاره وتجليّه بوضوح! كل الدساتير كفلت حُرية التعبير والنقد البنّاء والاحتجاج السلمي.. الخ، نعم هُناك فرق شاسع ما بين المكتوب على الورق وما بين المعمول به في الواقع…! فما دام "الحُكم الديكتاتوري الشمولي" غير موجود – كما تدّعي الأنظمة الديموقراطية – لماذا تنزعج وتغضب الأنظمة الديموقراطية من انتقادها؟ ما دام "استغلال الخطاب الديني" أمر مُستهجن ومرفوض، لماذا تقمع الأنظمة كل من تسوّل له نفسه انتقاد "استغلال الخطاب الديني" لصالحها؟!
ما دام زواج القاصرات وجرائم الاغتصاب والتحرش ممنوعة ومُحرمة قانونياً، لماذا تُحاسب الأنظمة من يتناول تلك المواضيع وتتهمه بـ"الإساءة للآداب العامة" وغيرها من التهم؟! ما دام التطرف والإرهاب مُحارب وتتم مكافحته على كافة الأصعدة، لماذا تُمارس الأنظمة الإرهاب في التعامل مع المواطنين والتطرف في تطبيق القوانين والتشريعات؟! ما دام الواقع في حقيقته لا يُغضبك، ولا يُزعجك، فلماذا تثور ثائرتك وتغضب إذا كُتب أو صوّر وأُذيع للعيان؟! مُجدداً، لماذا نكره المرآة التي تعكس بصدق حقيقتنا كما هي؟ لا بل نجتهد لكسرها وتحطيمها، أنت أيّها الكاتب تهمتك تقبيح الواقع. الواقع فيه القبيح والجميل، هو ليس واحد! من أجلنا لا تُظهر القبيح.. عُذرا لا أستطيع، فأنا كمرآةٍ فقط!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.