شعار قسم مدونات

فساد واستبداد.. هكذا تدار السعودية!

blogs السعودية

في أحد خطاباته الشهيرة خرج الملك فيصل بن عبد العزيز على الجماهير في عام 1972 معلنًا دعم المملكة لقضية الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة قائلًا في خطبة عصماء له: "نحن لسنا ممن يديرون المعارك من وراء المكاتب وأجهزة التليفون، فإذا حلَّت الساعة ودقَّ جرس الحرب والنضال، فَسَتَرَوّنِي أنا بنفسي وإخوتي وأبنائي أمامكم". يقاطعه تصفيقٌ حارٌ من الجماهير ثم يستكمل الملك فيصل كلماته: "وإنني أيها الإخوة لا أقول هذا لا رياءًا ولا تزلفًا، ولكنني أقوله عن عقيدة ثابتة؛ لأنه إذا لم ندافع بدمائنا وكياننا وكل ما نملك عن قضايانا، فلن نكون أصحاب شأنٍ ولن تقوم لنا قائمة إذا اقتصرنا فقط على الخطب والتصريحات والوعود والوعيد".

   

في الحقيقة لا أتعجب مطلقًا من تلك الكلمات، إنما أتعجب من زاوية صغيرة يرسمها لنا هذا المشهد المهيب، وهو وقوف ذاك الأمير الشاب حينها سلمان بن عبد العزيز بجوار الملك فيصل طوال خطابه حتى نهايته، وكأنّه يُقِرُّ بوقفته هذه ويبارك تلك المبادئ التي أرساها الملك فيصل، ولكن واقع أمّتنا المضحك المبكي يحكي لنا كم اشتاقت الصفوف لرؤية الملك سلمان واهتمامه بقضايا الأمّة الإسلامية.  لا أجد هنا أدنى مبالغة إن قلنا أن تلك الكلمات كانت تعبر عن المملكة التي ظلت لمدة عقود متتالية تتسم بالطابع المحافظ، الذي جعل منها حارسة لراية التوحيد في ظاهر الأمر، ولكن بواطن الأمور وما يدور في الكواليس فهذا ما كشفه رجال المملكة المقربين فيما بعد وعدد من المراكز البحثية التي بدأت تنقب عن حقيقة الأمر شيئًا فشيئًا.

 

وللحديث بشئٍ من التفصيل وكشف المزيد من الحقائق علينا البحث في سرداب الصندوق الأسود للمملكة لكشف الحقيقة ساطعة دون غبشٍ أو غمامٍ يحول دون رؤيتها، والآن هيا بنا لرفع الستار عن جزء يسير من تلك الحقيقة الكامنة بين حوائط الديوان الملكي وأدراجه التي أُحْكِمَ غلقها منذ عدة سنوات؛ لدفن الخريطة التي تقودنا نحو مكان الصندوق الأسود الملئ بالخفايا المفجعة!

 

تقوم السعودية باستقبال الصحفيين في سجون تُعرف بأنها مكان لإعدام العشرات، ولكنها تُظهِرها في قنواتها ومواقعها وصحفها الإخبارية وكأنها جنة الله في أرضه
العائلة الحاكمة وثروة المملكة

نشأت الدولة السعودية عام 1932 وتعود تسميتها نسبة إلى عائلة آل سعود التي تحكم أكبر مساحة من الأراضي في شبه الجزيرة العربية منذ ما يزيد على 100 عام، بدأ ضخ النفط في السعودية عام 1938 وأصبحت تعتمد بـ 90 في المائة من صادراتها على النفط، ومنذ نشأتها وهي تُحْكَم بنظام أوليغارشي أساسه العائلة، ويتجاوز عدد أمراء عائلة آل سعود 7000 أمير، حيث يتم توزيع أرفع المناصب السيادية في الدولة عليهم، وخصوصًا في ذرية حصة السديري الزوجة المحببة والمقربة من الملك المؤسس، حيث يحصل هؤلاء الأمراء على امتيازات خيالية تفوق قدرة استيعاب العقل البشري، فهم يتقاسمون حصص البترول ويستلمون رواتب شهرية تصل في بعض الأحيان إلى 270 ألف دولار للشخص الواحد، ومن تلك النوادر التي قلَّمَا تحدث في تاريخ الدول أنه في عام 1996 صرفت السعودية 2 مليار دولار كمخصصات لأمراء سعوديين، في حين أن وقتها كانت ميزانية الدولة بأسرها لا تتجاوز 40 مليار دولار، كما أن إيرادات مليون برميل من النفط يوميًا تذهب بالكامل لـ 5 أو 6 أمراء فقط.

    

سياسة التحييد والسطوة على الحكم

فمع غياب وجود دستور تسير عليه المملكة بدعوى أن دستورها هو القرآن والسنة، ومع وجود نظام أساسيّ للحكم تمت كتابته عام 1992، بقيت الشرعية السياسية مرهونة بتفسيرات رجال الدين الذين يمثلون الركن الثاني في بناء الدولة السعودية، حيث يلعب رجال الدين السلفيون دورًا هامًا في نظام الحكم السعودي يتمثل في توفير الإطار الأيدلوجي والشرعي لممارسات النظام الحاكم، وقد تمثلت تلك العلاقة في شراكة قوية بين رجال الحكم ورجال الدين في المملكة ما بين آل سعود وآل الشيخ عبد الوهاب، الذين حصلوا على مناصب رفيعة بالدولة، ولكن مع نهج تحييد المؤسسة الدينية الذي فضلّه النظام الحاكم مؤخرًا، فقد تم تغييب الشريك الأساسي والذي كان بمثابة الحذاء الذي يمتطيه رجال الحكم، حيث وصل الأمر حتى آل الشيخ أنفسهم، فقد أُعفيَ عبد العزيز آل الشيخ بالأمر المباشر من إلقاء خطبة عرفة عام 2017.

   

ولكن على الجانب الآخر كان يهم السعودية تحسين سمعتها دوليًا، فوجد حكامها أنهم أمام خيار واحد، وهو تمثيل أنفسهم وكأنهم زعماء متحررون من القيود الدينية التي لطالما كانت تشتهر بها المملكة، فانتهجوا نهج سياسة الحرباء التي يجب أن تتلون؛ لكي تتلائم مع المناخ السائد والبيئة التي ترتضي العيش بها، فاحْتَسَى كل من الملك فهد والملك عبد الله الخمر أمام الكاميرات، كما أراد الملك فهد التلون أكثر فأكثر فارتدى قلادةً عليها شعار الصليب في بريطانيا أمام الشاشات التي أتت لتسجل هذا المشهد من كل حدب وصوب وذلك قبل أن يُلقِب نفسه رسميًا بلقب "خادم الحرمين الشريفين".

  

القمع والديكتاتورية.. سلاحا العائلة

فمع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 صرفت الخزينة السعودية نحو 37 مليار دولار كهدايا للشعب؛ خوفًا من انتقال عدوى الربيع العربي إلى المملكة، كما تُصنف السعودية على أنها سابع أكثر دول العالم استبدادًا، هذا بخلاف جهاز أمن الدولة السعودي الذي تأسس عام 2017، والذي يُرَجح أن يصبح أقوى أجهزة القمع في دولة آل سعود، وهو الجهاز الذي يخضع لسيطرة الملك ويتلقى الأوامر منه مباشرة، والذي لعب دورًا كبيرًا في حملة الإعتقالات التي طالت عددًا كبيرًا من علماء المملكة مؤخرًا.

 

ولصرف الأنظار عن كل تلك المستجدات التي تطرأ على ساحة المملكة كان لابد أن يكون هناك غطاءًا إعلاميًا يغض الطرف تارةً أو يمدح المملكة تارةَ أخرى، وهو ما قامت به المملكة مع قناة MTV اللبنانية والتي حصلت على دعم سعوديّ بلغ 2 مليون دولار عام 2012، وفي مفارقة مذهلة تقوم السعودية باستقبال الصحفيين في سجون تُعرف بأنها مكان لإعدام العشرات، ولكنها تُظهِرها في قنواتها ومواقعها وصحفها الإخبارية وكأنها جنة الله في أرضه، حيث ساحات اللعب الرياضية وأماكن التدفئة والطعام الذي أشرف على طبخه أمهر طباخي العالم العربي.

  

السعودية استمالت لحسابها بحفنةٍ من المال عددًا من الكُتَّاب والصحفيين الأميركيين، ومنهم الصحفي الشهير في واشنطن بوست ديفيد أغناشيوس، والمعروف بأنه أكبر المنافحين عن رؤية المخابرات المركزية الأميركية في الأوساط الصحفية الأميركية
اللوبي السعودي في الخارج

وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فلم تجد السعودية مفرًا من إنفاق الأموال الباهظة لتوجيه الرأي العام العالمي، فأنفقت 18 مليون دولار على أعمال اللوبي في الولايات المتحدة الأميركية وحدها، واليوم تُظهِر سجلات وزارة العدل الأمريكية أن عدد جماعات الضغط التي تعمل بعقود سارية لصالح الرياض يبلغ 30 مجموعة مختلفة، ما يضع السعودية في المرتبة الثانية على قائمة الدول الأكثر توظيفًا لجماعات الضغط في واشنطن، ومنذ فوز ترمب بالرئاسة تشير سجلات وزارة العدل إلى قيام السعودية بإبرام وتجديد سبعة عقود مع مجموعات ضغط منها ثلاثة عقود جديدة كليًا. والقائمة تطول بأسماء مَن يتلقون أموالًا سعودية من الباحثين ومحللي السياسيات ورجال الكونغرس السابقين ممن يعملون لصالح جماعات الضغط، من أمثال ساكسي شامبلس وجو ليبرامان وإيافان باييه الذين نسقوا حملة تلفزيونية بقيمة ستة ملايين دولار مُمَوَّلة من قبل المملكة العربية السعودية؛ لمعارضة الاتفاق النووي مع إيران.

 

والأمر الذي يدعو لمزيد من الاستغراب والدهشة هو أن السعودية رغم اعترافها بقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي الكاتب بصحيفة واشنطن بوست الأميركية؛ نظرًا لكونه أحد الأقلام التي تقض مضاجعهم بكتاباته ومقالاته في الصحيفة الشهيرة، إلا أنه لم يكن هناك داعٍ لقتله بالحسابات المادية البسيطة؛ وذلك لأن السعودية قد استمالت لحسابها بحفنةٍ من المال عددًا من الكُتَّاب والصحفيين الأميركيين، ومنهم الصحفي الشهير في واشنطن بوست ديفيد أغناشيوس، والمعروف بأنه أكبر المنافحين عن رؤية المخابرات المركزية الأميركية في الأوساط الصحفية الأميركية.

 

تمتاز مقالات أغناشيوس حول السعودية بشكل عام بوفرة النقل عن مصادر غير مُوثقة أو معروفة، وغالبًا ما تكون انتقاداته للسعودية هوامش ضئيلة على جانب الإشادة بالجهود البطيئة للإصلاح في المملكة المحافظة، وهو إصلاح لم يتوقف أغناشيوس عن رؤيته فيما يبدو على مدار قرابة عقدين من الزمن، ولم يكن مفاجئًا أن تُفصح الرسائل المُسَربة للسفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة، عن مراسلات متبادلة بينه وبين أغناشيوس على خلفية مقال له يشيد فيه بمحمد بن سلمان.

 

لا يستطيع أحد أن ينكر دور المملكة الجيد في فترةٍ من الفترات العصيبة التي عاشتها الأمّة الإسلامية، ولكن بعد سرد تلك الحقائق أظن أنه لم يعد يمكننا أن نأتمن أرواح الملايين من رجال ونساء أمتنا الإسلامية ممن يشدُّون الرِّحال لحج بيت الله من كل فجٍ عميق، بيد عائلةٍ ما زال صندوقها الأسود تحوي جعبته العديد من الخفايا والخبايا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.