في روايته الأخيرة "الأصل" عبر الكاتب الأمريكي دان براون عن تفاؤله بمستقبل الإنسان وهو يعيش عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ورأى أن سلالة جديدة من النوع البشري آخذة في الظهور وهي سلالة تأخذ التكنولوجيا حيزا كبيرا من بنيتها التكوينية ليس فقط لأن شريحة منها قد ركبت أطرافا وأعضاء صناعية، وتشكل التكنولوجيا الذكية جزءا لا يتجزأ من حياتها اليومية بل لأن التقنيات الحديثة باتت تتدخل في معظم الأنشطة الإنسانية وأكثرها خصوصية وحساسية، وخلص الروائي ذائع الصيت إلى أن "التكنولوجيا في المستقبل ستقوم بتوحيدنا وتنويرنا ورفعنا نحو الأعلى".
ربما ما فات دان براون وهو يبشر بسلالة تطورية جديدة من الجنس البشري؛ قادرة بفضل ذكائها على التغلب على الأمراض والأوبئة والعيش لأطول فترة ممكنة على ظهر الأرض؛ أن هذه التكنولوجيا الذكية قد قامت فعلا بتقويض أكبر منجز عقلاني استطاع الإنسان تطويره على مدى عشرات القرون، وأقصد هنا الديمقراطية باعتبارها مجموعة من الآليات التي سمحت لقسط من المجتمعات المعاصرة بتدبير خلافاتها وترشيد تنافسها بعيد عن حروب الإبادة والاستئصال. ما يعني انفتاح المجتمعات التي ترفع لواء الحداثة على حقب جديدة من الحروب والنزاعات قد لا تبقي منها ولا تذر.
تابع العالم كيف تتهاوى الديمقراطيات العتيدة تحت مطارق "الأخبار الزائفة" و"الحسابات الوهمية" ونشاط "الروبوتات" على مواقع التواصل الاجتماعي. إن الانقلاب على الإرادة الشعبية لم تعد تضطلع به الدبابة التي توجه مدفعها صوب مبنى الإذاعة حتى ينتهي الانقلابيون من قراءة بيانهم، بل يحدث ذلك اليوم بطريقة ناعمة و"فائقة الذكاء" عبر تسميم الفضاء العام وتلويته بسديم من الإشاعات والبيانات الكاذبة والأخبار الزائفة، والتسميم غالبا ما تقوم به برمجيات وخوارزميات مصممة خصيصا لهذه المهمة. يجري الحديث اليوم عن عدم نزاهة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وأن مجموعة من الهاكرز الروس دسوا أنوفهم فيها لصالح الرئيس دونالد ترامب، كما تتصاعد الأصوات المطالبة بإعادة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأن البيانات التي استند إليها الناخب البريطاني كانت مضللة، كما بوأت هذه البيانات والأخبار المضللة رؤوس اليمين المتطرف سدة الحكم في كثير المجتمعات " العلمانية" و" المستنيرة". قد يكون الروائي الأمريكي مصيبا في تنبئه بمستقبل مضيئ للإنسان وعمر مديد له وقد استطاع قهر الأمراض الفتاكة ويسر لنفسه حياة الرغد والرفاه بفضل التكنولوجيا الذكية، لكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه التكنولوجيا ذاتها هي التي وضعت الزر النووي تحت إصبع شخص مهووس بصفقات السلاح وبالثروة والنفوذ، ويرى في الحروب فرصا استثمارية واعدة.
العملية الديمقراطية في عقر مجتمعات الحداثة لا تعدو أن تكون إجراءا صوريا يضفي نوعا من الشرعية على ديكتاتورية رأس المال المدجج بالتكنولوجيا الحديثة |
يقول المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير: "الديمقراطية الليبرالية بإمكانها أن تشكل فعلا منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية والشكل النهائي لأي حكم إنساني" لقد جرى الاحتفاء كثيرا بالكتاب وأطروحته وعد صاحبه أحد أبرز المفكرين المعاصرين وعلى إثر خلاصاته الفلسفية المتهافتة انطلقت الدبابة الأمريكية الغاشمة مبشرة بالنموذج الديمقراطي الليبرالي الذي لا مناص من الإذعان له، وقد ساعد مناخ انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي في تعزيز الشعور بالتفوق والثقة المطلقة في الأيديولوجية الليبرالية. ولست أدري ما هو موقف فوكوياما الآن وهو يرى أطروحته وقد سقطت سقوطا حرا في ذروة سطوتها وهيمنتها. ولعل السؤال الوجيه الآن هو: هل ما يزال النموذج الديمقراطي صالحا للتطبيق في السياقات المعاصرة؟ وهل يُعبر فعلا وبشكل نزيه وأمين عن الإرادة السياسية للناس؟ أم أن العملية الديمقراطية في عقر مجتمعات الحداثة لا تعدو أن تكون إجراءا صوريا يضفي نوعا من الشرعية على ديكتاتورية رأس المال المدجج بالتكنولوجيا الحديثة، تماما مثلما هو الحال في عبثية الممارسة الديمقراطية في العالم الثالث.
إن الذين يرون في منظومة الحكم الإسلامي بمفاهيمها وإجراءاتها أفكارها عتيقة قد تجاوزها الزمن وتخطاها التاريخ عليهم أن يكونوا أوفياء لروحهم الحداثية ويحكموا بالشيء نفسه على النموذج الديمقراطي الليبرالي، حيث باتت التصدعات التي أصابت بنيانه عصية على الرتق والترميم. وبإمكان الجميع التكهن بمصير هذا العالم لو انهار النظام الديمقراطي أو فقد الناس ثقتهم فيه. نظرة خاطفة على أحوال العالم الثالث كفيلة بإعطائنا فكرة واضحة عما سيحدث؛ حروب لا تنتهي على السلطة وانقلابات تطيح بها أخرى وديكتاتوريات إثر ديكتاتوريات. فليكف إذا المهووسون بالنموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي عن الاعتقاد بأن نموذجهم الأثير شرط لأي نهضة حضارية، وليفكروا بدل ذلك في صيغة أخرى تحفظ للأمة هويتها وأصالة رسالتها وتضمن في الوقت نفسه لأفرادها كافة حقوقهم السياسية. سيكون مفهوما أن الخلافة الإسلامية سقطت بعد عقود من المؤامرات، وحروب مدمرة، وانقلابات مدبرة وتدخل مباشر وغير مباشر من القوى العالمية الكبرى آنذاك، لكن ما لن يكون مفهوما أن الديمقراطية الليبرالية سقطت -أو بصدد السقوط- وهي تتمتع بحماية أفتك الأسلحة وأعتى الجيوش وأقوى الأجهزة، سقطت من تلقاء نفسها في عز جبروتها المادي والرمزي. وهذا ما يبعث أكثر الأسئلة وجاهة حول جدواها وقدرتها على الصمود أمام إكراهات الزمن والتاريخ. الخلافة الإسلامية اُسقطت قسرا وقهرا بينما الديمقراطية الليبرالية سقطت تلقائيا لأنه ببساطة تحمل في صميم تكوينها عوامل زوالها.
الديمقراطية منجز إنساني وليس براءة اختراع مسجلة للرجل الأبيض، ساهمت في بنائها عقول من مختلف الحضارات والأمم، والديمقراطية الغربية هي إمكان ضمن إمكانات أخرى يمكن للديمقراطية أن تتحقق من خلالها، وبعدها الاجرائي ينطوي على حلول جذرية لأهم أزمات الحكم وتدبير الشأن العام في عالمنا الإسلامي. لقد تصدر الثورة الإيرانية بداية الثمانينيات مجموعة من المعممين الذين آمنوا بفكرة خرافية مناقضة للعقل والنقل (ولاية الفقيه) لكنهم استطاعوا تأطيرها ومأسستها في نظام سياسي، أخذ من الفكر الديمقراطي ما يحتاجه للاستمرار وتداول السلطة وإدارة التنافس واتخذ في الوقت ذاته من العقيدة الإمامية هوية ومرجعية، وبفضل هذا المزج أمن نظام الملالي لنفسه قدرا من الاستقرار في محيط يعج بالنزاعات والاضطرابات.
ختم الكاتب اللبناني (الفرنسي) أمين معلوف كتابه الماتع "الحروب الصليبية كما رآها العرب" بملاحظة جديرة بالتأمل في سياق حديثه عن عاهات العرب وعجزهم عن توظيف نصرهم المبين على الصليبيين واستئناف مسيرة التألق الإسلامي قائلا: "وعاهتهم الثانية أي -العرب – عجزهم عن بناء مؤسسات ثابتة، وقد نجح الإفرنج منذ وصولهم إلى الشرق في خلق دول حقيقية، فكانت الخلافة في القدس تتم بشكل عام من غير صدامات، فكان مجلس المملكة يمارس رقابة فعلية على سياسة العاهل وكان للكهنوت دور معترف به في لعبة الحكم. ولم يكن شيء من هذا في الدول الإسلامية، فكل نظام ملكي كان مهددا عند موت الملك، وكل انتقال في الحكم كان يثير حربا أهلية". فحكام المسلمين وعلمائهم –على عظم بلائهم وتضحياتهم- لم يدركوا حساسية اللحظة الفارقة عشية طرد الصليبيين بحيث يضعون حدا "لسلطة التغلب" و"الانقلابات" ومصادرة حقوق الأمة السياسية، من خلال إعادة استدعاء النموذج الراشدي باعتباره قيمة معيارية لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها مهما كانت الظروف والمبررات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.