شعار قسم مدونات

عندما يعلو المال على صوت الضمير!

blogs الصحافة

يحكي الطنطاوي قديما عن أحد الأدباء في دمشق ممن ذاع صيته واشتهر قلمه بكتاباته الصحفية أنه التقى مرة بمن عرض عليه أن يكتب له ما يريد في إحدى الصحف بمقابل مادي وسلمه إياه فلم يرق لهذا الكاتب قدر هذا المبلغ فجعله يساومه ليزيد فيه فغضب صاحب المال وقال له ما هذا؟ هل هي قضية بيع وشراء؟ فقال له بصراحته المعهودة نعم إننا نبيعك ضمائرنا.

ما أرخصه اليوم الضمير الصحفي الذي يبيع ويشتري ويساوم في سوق النخاسة وبأبخس الأثمان على جرائم في حق الإنسانية وفي حق صاحبة الجلالة التي اغتالها المارقون الخارقون المعلومون المجهولون ولئن كان بيع الضمائر قديما مستتير فبيعها اليوم أضحى ظاهرا في محل رفع ونصب وجر والغريب جدا أن من يقوم بكل هذا يصر على تسمية نفسه صحفي أو أنه يدافع عن الحرية والعدالة والعمل الصحفي منه براء.

واقع الصحافة في العالم العربي اليوم كرس زمن أحزان صاحبة الجلالة حيث يدعو إلى التذمر وإلى الخجل وإلى قراءة الفاتحة كيف لا ومن يدعون النضال ويهللون بشعارات حرية التعبير في كل مناسبة يبيعون ضمائرهم وزملائهم في المهنة ابتغاء مرضاة الكبار وتسولا للمناصب وتسلقا على أنقاض الحقائق. يؤسفني حقا الاعتراف بأن سلطة المال تعلو فوق القانون والشرف والأخلاق فبدلا من توظيف ثروات الأوطان في البناء والتنمية يتم توظيفها في شراء صمت الخونة والمرتزقة وتجاوز الأنظمة والقوانين والقيم وفي دعم المجرمين ونشر الفساد والدمار والقتل.

لكي تستمر اليوم كصحفي سليم ومعافى فأنت أمام خيار وحيد لا بديل عنه وهو ألا ترى ولا تسمع ولا تكتب وإلا أصبح مصيرك كمصير الصحفيين الأحرار داخل المعتقلات أو القبور

الأوطان العربية تدار اليوم وفقا لمصالح من يتاجر بها ويفرض ما يشاء من قوانين منحازة لمصالحه المالية والشخصية على حساب ثروات الشعوب من جهة وأمن واستقرار الأوطان من جهة أخرى. مجموعة من الصحفيين والإعلاميين ارتضوا على أنفسهم وخانوا قيم الصحافة التي أقسمنا عليها جميعا عندما اخترنا أن نكون صحفيين بقبولهم صدقات وهبات أصحاب النفوذ والسلطة ودوافع ذلك معروفة فهناك من أعلن استعداده للتطبيل لإجرام دولة في حق صحفي وهناك من شكل خليته الإعلامية للتأثير على اتجاهات المواطنين بشأن تزوير الحقائق وآخر تحول إلى سمسار يشتري حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي يوظف بها الذباب الإلكتروني من أجل مهمتي السب والقذف.

لكي تستمر اليوم كصحفي سليم ومعافى فأنت أمام خيار وحيد لا بديل عنه وهو ألا ترى ولا تسمع ولا تكتب وإلا أصبح مصيرك كمصير الصحفيين الأحرار داخل المعتقلات أو القبور هذا إن كنت محظوظا وعثرو على جثتك. إننا نعيش نكسة حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى بعدما تحولت بعض المؤسسات الإعلامية في عالمنا العربي إلى أجهزة استخباراتية ليست لها علاقة بالكشف عن الفضائح والفساد والتجاوزات بل إلى وسيلة لاخفاء الحقائق والتبرير والتلاعب بالعقول وفبركة واقع مزيف لا علاقة له بالواقع المعاش ونقل اللاحقيقة بدلا من الحقيقة.

هل ما زلنا نتجرأ على ترديد الشعارات التي كنا نعتز بها عن الصحافة في مناسبات مختلفة على شاكلة (الصحافة هي السلطة الأولى وليست الرابعة) (كلمات الصحافة فتات يتساقط من مائدة الفكر) و(مات الجهل بميلاد الصحافة) وكلمة توماس جيفرسون الشهيرة (لو أنني خيرت بين أن تكون لدينا حكومة بدون صحافة أو صحافة بدون حكومة لما ترددت لحظة في تفضيل الخيار الثاني) وهل ما زالت القناعة حاضرة بوجود أصوات وضمائر حرة أم أن سلطة المال تعلو حتى على صاحبة الجلالة؟

الأكيد أن الجواب سيكون بالإيجاب مادام هناك من يعرض ذمته للبيع لإشباع طموحه اللامحدود الذي يفوق حاجاته المشروعة فيسرد الوقائع وفقا لمن اشتراه. لكن في ظل وجود صحفيين أحرار مستعدون للموت من أجل كشف زيف هذه المحاولات وعدم الانسياق والانجرار خلف الألاعيب السلطوية المكررة والمفضوحة يمكننا أن نأمل خيرا في قوة الإعلام المهني المتسلح بحريته ومصداقيته القادر على صناعة رأي عام حقيقي ومؤثر يكون حائط صد لكل نظام يعتقد أنه يمكنه إخراس كل الضمائر الحية المستعدة للتضحية بحياتها لكشف الحقيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.