شعار قسم مدونات

على الأمهات أن يصبحن كاتبات!

blogs طفلة تقرأ

لو أن كل الأمهات أصبحن كاتبات، ينسجن الحروف في منتصف الليل على شكل وصايا للأبناء، خوفا وحرصا من فراق قريب، عليهن أن يدركن حجم الفاجعة إن انسحبن بهدوء بلا وصايا، موثقة بالساعة واليوم والدموع المنهمرة غصبا عنهن، حتى يأمن استبداد الذاكرة في النسيان كل ما مر الوقت على الرحيل.

على الأمهات ألا يتركن الأبناء حتى بعد الوفاة، عليهن أن يظهرن على شكل دعاء يطوف فوقنا، عليهن أن يكتبن الكثير مما أردن قوله وانشغلنا عنهن في اللعب والنوم ورحلة أصدقاء، ماذا لو سجلن صوت دندناتهن الصباحية على الشرفة لنيقي أصواتهن داخل البيت حتى لا يتصدع، يجب أن يدركن حجم بؤسنا عند التعثر إن لم يكن على قيد الحياة، أثق أنهن سيكتبن لنا عن كل شيء سيحدث معنا بطريقة ما، سيقفن معنا بنصف جملة حين يخذلنا العالم، سيكن صدرا كبيرا في كلمة واحدة نستطيع أمامها أن نبكي.

عليهن أن يكتبن عبارات بسيطة إن كن مشغولات ذلك اليوم، أن يكتبن مثلا "أنا أفهمك" أو "أنا معك" هذه كفيلة بانتشالنا كالأطفال إن وقعنا، وبقتل الأرق إن زارنا في ليلة ثقيلة وأطلق ضجيجه على هيئة صداع ينخر راسنا، عليهن أن يدركن مصيبة رحيلهن فجأة دون أن يتركن شيئا نسند له حززنا، ونقتات عليه خلفهن.

ماذا لو كتبن لنا سؤالا عابرا مثل "كيف حال قلبك اليوم" وتركن لنا بعده عدة صفحات فارغة نجيب فيها عن حالنا، وبعض المناديل لنمسح بحر يغرق في تجاعيد الحزن في وجوهنا، لو كتبن لنا مثلا سؤالا يستفسرن فيه عن سبب السهر غير المبرر، أو عن عدم تناولنا الطعام هذا اليوم، ليس عليهن الرحيل بهذا الصمت المفجع، عليهن أن يتركن لنا أصواتهن ودفاتر وصايا وأسئلة، نجيب عليهن وفينا ثقة كاملة بأنهن سيقرأن لنا! يجب أن يدركن فظاعة الوحدة القاتمة في غيابهن ويحتطن جيدا أن يتركن شيئا لنا يهون فظاعة الأشياء التي تحدث دون أن نفهمها.

عليهن أن يخبرننا أننا لسنا بكل هذا السوء عندما تتكاثر أخطاءنا، ويلتف حبل الندم حول أعناقنا، عليهن أن يكتبن لنا بشكل صارخ أننا ما زلنا نستطيع الوقوف وحدنا

عليهن أن يتركن كمادات على شكل وصية إن زارتنا الحرارة ولم نجد أحد إلى جانبنا، أدعية على شكل يد دافئة تمسح عن رؤوسنا، ليقلن لنا أن كل الجدران مائلة عداهن، وإننا مهما اعتقدنا أننا وصلنا إلى الثبات مع أحدهم فإن الخلخلة مصيرنا وستكون فاجعة موجعة، وإن أسرارنا مع غيرهن لا تصان، عليهن أن يطلبن منا فتح النوافذ باستمرار حتى نجدد الهواء عندما تتعاظم وحدتنا ونختار الجلوس في الزاوية.

يجب أن يخبرننا أنهن ما زلن يفخرن بنا حين يقلل من شأننا من رأيناه محورا فكسرنا، من رأيناه مثلا فنزع يده وأشاح ظهره بعدما تنبأ بفشلنا، عليهن أن يخبرننا أننا لسنا بكل هذا السوء عندما تتكاثر أخطاءنا، ويلتف حبل الندم حول أعناقنا، عليهن أن يكتبن لنا بشكل صارخ أننا ما زلنا نستطيع الوقوف وحدنا، أو حتى يكتبن "لم أجد وقتا فارغا لك اليوم" ستكون مواساة لنا أيضا.

ليس على الأمهات التوقف عن الكتابة، عليهن أن يحافظن على كل الخطط المحكمة التي تثبت لنا أنهن لا زلن معنا بأي شكل كان، علينا أن نحافظ على كل الطرق التي تسمح لنا بالانهيار اأامهن حين نقرا لهن، علينا أن نقبل الصفحات حين يصدق إحساسهن ويكتبن لنا النصيحة الأمثل للمشكلة التي ما نقع فيها، واثق أنه سيصدق كثيرا، للحد الذي يجعلنا نلتفت حولنا، ونجد أنفسنا ذهبنا إليهن نطرق باب الغرفة حتى يستيقظن.. عليهن أن يكن كاتبات كي ننجو من كل هذا التعب.

ستختار الأمهات مفردات عادية، وتخلو النصوص من صور فنية، ومع ذلك سيتفوقن ككاتبات مبهرات، سيكون الخط في بعض الجمل كموج البحر يعلو وينخفض بسبب السرعة، ويحتل الزيت بعض الأوراق ويكتبن لنا بقلم الحبر الموجود بالمطبخ لكتابة وصفات الطعام، وبعض المرات سيكتبن بقلم ألوان وجدنه في الصباح أثناء قيامهن بتعزيل المنزل وتنظيف الأرضيات وخبئنه لأننا ربما سنحتاجه ونسال عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.