شعار قسم مدونات

جرائم اللسان.. حماية للاعتبار أم تكميم للأفواه؟

blogs مناضل

تتعدد تسمياتها والعلة منها واحدة، تختلف أرقام موادها لكن الجريمة في كل القوانين واحدة، جرائم اللسان أو كما يسميها القانون الأردني الجرائم الماسة بالشرف، أو النصوص التي تحمي الكرامة والشرف والاعتبار، يزعم المشرع أنه يحمي مفاهيم سامية من خلال تشريع مثل هذه الجرائم، كشرف الشخص وكرامته ومكانته الاجتماعية، حيث أنها تعرض من يطعن في مكانة أي شخص أو يسند إليه أية واقعة إلى مساءلة جزائية ومدنية قد توقع عليه عقوبتي الحبس والغرامة إضافةً إلى تعويضٍ مدني يحكم به لمن تم الاعتداء على شرفه وكرامته، لكن حتى نصل إلى نتيجة قانونية حقيقية علينا أن نبحث في هذه الجرائم بحثاً علمياً وموضوعياً.
 
تتبع معظم القوانين العربية نفس النهج في النص على هذه الجرائم في قوانينها العقابية، بل وقد تابعت تلك الدول عن كثب-على غير العادة- أي تطور في هذا التجريم خاصة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي واكتساحها للمجتمع بكافة أطيافه وطبقاته، وعلى وجه الخصوص دور هذه الوسائل في ثورات الربيع العربي، ولإحكام السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتبرها الحكومات العربية كارثةً كبرى لسرعة انتشار الأخبار فيها كالنار في الهشيم، قامت بتشريع ما يسمى قوانين الجرائم الإلكترونية التي تجرم العديد من الممارسات الإلكترونية لعلل وأسباب مختلفة، لكن أهم مادة في هذا القانون هي المادة التي تجرم أي تناول أو نشر أو إذاعة أو كتابة أية أمر فيه اعتداء على كرامة أو اعتبار أي شخص، وهذا اتجاه محمود من حيث السعي إلى حماية اعتبار الأشخاص، لكن يبدو أن الواقع العملي يصدمنا بغير ذلك.

نتمنى أن نرى اليوم الذي لا يساق فيه الشخص إلى السجون بسبب ما نطق به لسانه، وأن لا نرى مسؤولي السلطات في الدولة يلوحون بتلك النصوص في وجه المواطنين حتى يسكتوهم

للوهلة الأولى، تبدو النصوص التي تعاقب على جرائم الذم والقدح والتحقير التي تعتدي على كرامة الشخص واعتباره سواء بالقول أو الكتابة أو بالوسائل الإلكترونية؛ نصوصاً تحمي مفاهيم سامية، إلا أنها وللأسف أصبحت تشكل أداة في يد مسؤولي السلطة التنفيذية، حيث يستغلون اتساعها واستيعابها لكثير من الفرضيات، ويضربون بصوتها على ظهور المواطنين البسطاء الذين يعبرون عن رأيهم بعفوية وبساطة، وهم لا يملكون ثمن شراء كتيِّب قانوني ليعلموا ما يترتب على ما يقولونه أو يكتبونه على وسائل التواصل الاجتماعي.

بل ومن الممكن أن يحصِّل المسؤول السياسي الذي يتقاضى آلاف الدولارات شهرياً، تعويضاً ضخماً من مواطن بسيط عاطل عن العمل من الأساس؛ بسبب وجود هذه الجرائم حتى يومنا هذا، وفي الوقت الذي يتم تطوير النهج العقابي لهذه الجرائم وما يترتب عليها، تنسى بعض الدول أو تتناسى التطور الإصلاحي الخاص بهذه الجرائم والذي يلائم مبادئ حقوق الإنسان؛ حيث تم التوصل حديثاً إلى أن مثل هذه الأفعال لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات والقوانين الملحقة به، بل يجب أن تقتصر على التعويض المدني فقط دون أي عقوبة جزائية تتمثل في الحبس أو الغرامة أو كليهما، أي أنه وبمعادلة بسيطة؛ من يتعرض إلى أي اعتداء يطال شرفه أو كرامته و اعتباره؛ يستحق تعويضاً مدنياً من المعتدي دون إيقاع أية عقوبة جزائية عليه، وهذا هو التتويج الحقيقي لمبادئ حقوق الإنسان، فلا يجب أن يسلب الإنسان حريته بعقوبة الحبس فقط لأنه تكلّم! حتى لو كان كلامهُ باطلاً عارٍ عن الصحة، من المنافي للعدالة أن تسلب حريته.

فضلاً عن أهمية التمييز بين الاعتبار الشخصي الذي يتعلق بمنزلة الشخص وحياته الخاصة، وبين الاعتبار السياسي الذي يتعلق بعمل الشخص كمسؤول سياسي من الممكن أن يتعرض لأقوال تحمل شيئاً من الذم أو القدح أو التحقير، ليس بصفته الشخصية، بل بوصفه شخصاً في منصبٍ عام وبسبب ما يتخذه من قرارات تنعكس على الوضع العام في الدولة وحياة المواطنين اليومية، وهي ما يطلق عليه الفقه السياسي "ضريبة السياسة"، فأي اعتداء على كرامة الشخص أو اعتباره بوصفه يشغل منصباً سياسياً عاماً لا يجب أن يدخل في حيز أي جريمة أو تعويض وذلك لأن الذم والقدح الذي يطاله ما هو إلا ضريبة السياسة التي وبمجرد قبوله بمنصبه ارتضى ضمناً أن يدفعها، حيث أن إتباع مثل هذا النهج يعد من الاتجاهات الفضلى التي تتوج مبادئ الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، مما ينعكس إيجاباً على الحياة السياسية في الدولة بوجه عام.

وأخيراً نتمنى أن نرى اليوم الذي لا يساق فيه الشخص إلى السجون بسبب ما نطق به لسانه، وأن لا نرى مسؤولي السلطات في الدولة يلوحون بتلك النصوص في وجه المواطنين حتى يسكتوهم ويمنعوهم عن توجيه أي انتقاد لهم بحكم مناصبهم، وإلى أن يأتي ذلك اليوم، انتبهوا إلى كلامكم جيداً؛ حتى لا تصبحوا على يومٍ تجدون فيه أنفسكم نزلاء أحد السجون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.