شعار قسم مدونات

الانفتاح.. ضرورة اجتماعية أم كارثة ثقافية؟!

blogs مجتمع

كثيرٌ من الأحيان يقعُ الكُثُر تحت ظلمٍ؛ عادةً ما يظهرُ بمظهرِ الإنصاف، أو حتى التكرّم على نائلِه، بقصدٍ أو بغير قصد بحسن نية أو بسوئها، بحسن تدبير أو بعكسه، يتم منح الأبناء بعض الأدوات التي قد تودي بحياتهم، إنهاءً أو إنهاكًا، وكثيرًا أيضا ما تُمنح لهم هذه الأدوات على أنّها نوعٌ من الامتياز أو التقدير على التمييز، فتودي بتمييزهم إن لم تودي بهم كلاً، كمثالٍ بسيطٍ سريعٍ: مَنحُ طفلٍ سكينًا أو مسدسًا لأنّه أظهر شجاعتِه أو رجولتَه أو كفاءته… يظهرُ هذا بمظهرُ التّقدير ومظهر التكرُّم على الطٍفل وتعزيزِه بينما هو في الحقيقة طريقٌ لوفاتِه التي حصلت بهذا النيشان الذي مُنحه ! ويشبهه كثيرٍا أن تمنح طفلًا في سنّ السادسة لتفوّقهِ الدراسيّ هاتفًا يتوفّرُ فيه كلّ شيء على مدار اليوم؛ ستكونُ آخر سنوات تفوّقه غالباً.

الجديرُ بالذِّكر هنا أنّ الهاتف أو السكّين ليستا أدواتٍ سيّئة، ولا أدواتٍ يجب الحجر عليها بل أنّ القضية في مدى تأهيل حاملها؛ إنّ الخلل في كثيرٍ من الأحيان يكون بتسليم الأدواتِ لغير أصحابها، كالسٍكين للطفل، أو السيف لرامي النِّبال، أو الدولة للجيش مثلًا، وختامًا، تسليمُ مجتمعٍ قيمًا ليس مؤهلًا لحملِها. تنتقِل السّلوكات في هذا العالم بسبب أدواتِ الاتّصال التي فيه بصورةٍ كاملة، حيثُ يتمكن من في أقصى الخليجِ أن يطّلعَ على أدقّ تفاصيلِ حياة من يعيش في أقصى اللاتينية على طرفِ العالم، من هنا تحاول بعضُ المجتمعاتِ استنساخَ سلوكِ مجتمعاتٍ أخرى أو قيمِه وأفكارِه، خصوصًا إذا ما كان المجتمعُ المنسوخُ منه متفوّق حضاريًا فإن علّة النّسخ صارت واضحة، "لعلّنا َنلحقُ بهم!" إنّ الظنّ بأنٍ نسْخ سلوكِ الحضاراتِ المتقدمةِ سيزيدنا تقدمًا ليس سوى لغطٍ نتج عن محاولةٍ تشبُّث المجتمعاتِ المتأخّرةِ بأيّ علامةٍ تدُلّ على العَصريّة والتحضّر والتمدّن.

 

حيث يجهَل من يقومُ بهذا أنّ تطوّرَ السّلوكِ في تلك الحضاراتِ لم يكُن هو أصلُ التّطوّرَ الحضاريّ، بل أنّ تطوُّرَ السلوكِ كان نتاجًا لتطوّرِ منظومةِ الفكْر والأخلاق والسّياسة والفلسفة والعلم والصّناعة وكلّ جوانبِ الحياة، وعلى مدى فتراتٍ زمنيةٍ طويلة، فيمكنني هنا نسبُ بداية عصرِ المراجعات الأوروبية إلى ما قبلِ أربعة قرونٍ على الأقل، ظهر نتاج تطوّرها جليّا قبل قرنٍ أو قرنين، تطوّرٌ كان بعد حركةِ فلسفةٍ كبيرة، وثورةٍ علميةٍ هائلة، وثورةٍ صناعيةٍ بنفسِ القدْر، أدّت إلى تشكُل المجتمع بشكلٍ جديد بعد أربعةِ أو خمسةِ قرون من الحتّ والتعرية التي أظهَرت أوروبا ومجتمعِها بالشّكل الذي نعرِفُه من التحضّر والتطوّر المدنيّ والعمرانيّ والتشريعيّ اليوم، وما إلى ذلك من التطوّر، لا يمكن لنسخِ ظاهرهِ أن يعود على النّاسخ بأيّ أثرٍ سوى إحداثِ فجوةٍ بين حاملِ الأداةِ ومنظومةِ تفكيرِ صاحبِها، مما سيُنتِج حتمًا خللًا في التطبيقِ والاستخدام.

على من يطالب بهكذا تطوّر سلوكيّ أن يطالب أولًا بالتطور المعرفيٍ والحضاريّ في منظومةِ تفكيرِ هذه المجتمعات، فمحاولات القفز عاليًا في الهواء بلا أيّ ضماناتٍ لا تعتبر سوى انتحار

وأكثرُ ما أجدُ فيهِ هذا الحال هو الخليج، ولعلّها المملكة العربية السعودية على وجه التّحديد؛ خصوصًا بعد محاولة النّظام السعوديّ الجديد تحطيمَ كثيرٍ من القيود دفعةً واحدة والتي كان يفرضها سابقًا على مجتمعِه بصورةٍ شديدة، وإيجاد مؤسساتٍ لذلك، ويقوم اليوم بحلّها. إنّ تقدّم أوروبا لم يكن يومًا بناطحاتِ السّحاب أو دور "السينما" أو الحفلات الصاخبة، أو "المرثونات" وما إلى ذلك من تحرّكات، إنّ هذه كلها كانت مُحصِّلة التطوّر المعرفيّ في أوروبا، بل إنّ البعض رجّح أنّ أوروبا اليوم بشكلها الحاليّ تعاني من انفلات أخلاقيّ يعبٍر عن تدهورِ الحالةِ الأوروبية ممّا يدل على أنّها تقترب من البدءِ بالتراجع إن استمرّت على حالها! 

إنّ الانفتاح الواسع وما ينطوي تحت هذه المفردةِ من اختلاط النّوعين بشكلً كامل بلا مُحدداتٍ خاصةٍ بنا، أو مظاهرِ الصّخب والاحتفالِ العارمة وكل ما يشبِه هذا، ليس أداةً تليقُ بالمجتمعاتِ العربيةِ بغالبها، وإن كانت السعودية مثالنا سابقًا ؛ لأنّ محاولةَ الانفتاحِ فيها تبدو متهوّرةً بعض الشيء بلا أيّ ضوابطٍ ومؤهّلات، إلا أن المجتمعات العربية ككل، ليست مؤهلةً بعد للانسلاخ من تقاليدها وعاداتها واتّخاذ النمط الأوروبيّ في العيش ليكون نمطًا عربيًا ايضًا، وكلّ من يطلب هذا، يقوم بظُلم هذه المجتمعات التي لم تؤهّل بعد لأن تعيش بهذه الطريقة، وهنا أقول: أن المطالبة بهذا أو محاولة إدخاله للمجتمعاتِ الغيرِ مؤهلة ؛ هو محاولةٌ لقتلها وتدميرها أو تدمير جوانبٍ معينة فيها، إمّا بسوء تدبيرٍ من حكامها، أو بجهل بعض أفرادها، أو باختراق بعض الدُولُ لها عن طريق منظّمات أو ما يشبه هذا.

إن على من يطالب بهكذا تطوّر سلوكيّ أن يطالب أولًا بالتطور المعرفيٍ والحضاريّ في منظومةِ تفكيرِ هذه المجتمعات، فمحاولات القفز عاليًا في الهواء بلا أيّ ضماناتٍ لا تعتبر سوى انتحار، وكثيرًا ما استخدمتُ مثالًا قلت فيه "أنّ محاولة إزالة جدارٍ يشكّل عائقًا في الطّريق إلى التقدّم عن طريق الاصطدامِ به لن تنتج سوى تهشّم وجهِ من ارتطم به" وأنُ الطريق الصحيح لإزالة هذا الحائط هو بتفكيكِه شيئًا فشيئًا، ومعرفةُ ما يجب أن يزال منه وما يجب أن يبقى، ومن ثمّ المرور من خلاله. 

ختامًا إنّ للمجتمعات عقلًا يتطوّر ويتقلّص عبر العصور بالتناسب مع الحرّية فيها، وبالتناسب مع الحكم العادل، الذي يوفّر حياةً فيها الحدّ الأدنى من الرفاه، وإنَّ تأخّرنا إن كان بسبب الاستعمار أولًا، والذي ورثه الاستبداد العربيّ ثانيًا، فإنّه حالُ تداولِ الأمَمِ للصدارة، ولا يمكننا تغيير هذا الحال بنسخ مظاهرِ تلك الحضارات السطحية، بل بالاستفادة من جوهر تجارُبها ومناهجها، ومن مناهجنا وتجاربنا التاريخيّة التي كنّا في حينها نتصدر الأمم، أنّ مواكبة العالم لا تكون بلبس لباسه وأكل طعامه ونطق لغة لسانه، بل بفهم لغة عقله وتحليلها وتفكيكها وتطويرها، وإن لهذا في أوطاننا بوادر، والاستعجال عليها يقتلها، وتحفيزها يحيِها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.