شعار قسم مدونات

رحلة إلى الجنّة!

blogs امرأة

حين تغيب المادة وتُغلّب البصيرة على البصر وتصبح جميع المعايير معنوية، حينها فقط تُطلق الروح من سجن الجسد لتتجلّى فتهدي لنا معاني كامنة وتفتح أعيننا على لذّة القرب لأنفسنا بلا خوف، بلا لوم أو توقعات، حين تتحرر الروح تستطيع أن تمارس الحب غير المشروط مع أقرانها كشعور مجرد بلا منفعة مستردّة، تلك من أسمى صور تجلّي الإنسانية، هذا مكاننا ولهذا خُلقنا وهذه هي جنّة الدنيا، حين تكون قلوبنا مُسبّحة وتحيتنا سلاما.  كان ذلك من ضمن ما اختبرت خلال زمالة "هي" الإقليمية من مؤسسة "Peace revolution" العالمية تحت عنوان تمكين المرأة.

مع 23 امرأة متميزة على أصعدة مختلفة بعقول مستنيرة ومتعطشة للمعرفة، خلال خمسة أيام متواصلة من الأنشطة المكثفة والمنظمة كنا خلالها نرتدي زياً موحداً باللون الأبيض تاركين أنواع الزينة خلفنا غير كارثين بالأحكام المطلقة على مظهرنا. كما كنا مُلزمين باتّباع نظام غذائي متوازن وصحي وساعات نوم محددة وكافية، بالإضافة لمنع استخدام الأجهزة النقالة والحواسيب الشخصية منعاً باتاً. كل ما سبق وغيرها من الإرشادات المتبعّة، كانت معدّة لتهيّئنا لاستقبال المعرفة بحالة من الصفاء الذهني، للحصول على فرصة التقرّب لأنفسنا والمحيطين والتواصل المباشر والمكثّف بعيداً عن نظم التواصل السريعة العصريَّة.

كان البرنامج شاملاً لوِرش عمل مختلفة، أنشطة كسر الجليد، محاضرات في البرمجة اللغوية العصبية والتفكير ومهارات الموازنة بين ضغوط العمل والحياة، بالإضافة لتقنيات السيطرة على الصفاء الذهني والتأمّل، مع توليفة رائعة من المرشدين والمختصين في هذه المجالات، مرتكزين على محاور ثابتة جعلت منها تجربة استثنائية:

 

* أن ما يُعلَّم من القلب، بالرّوح، بالتجربة والخطأ ثم التصحيح لا يمكن أن يقارن بما يُلقّن باللسان ثم يُمتحن بالاختبارات والسّلام. إذ أن من يُعلّم بالطريقة الأولى مُرشدٌ ومُربّي، يعطيك مما يملك، يقيم أفعالك لا ذاتك بل ويدلّك كيف تقدّرها بشكل أفضل، إذ أن تقدير الذات ينير الطريق لطالب العلم، هؤلاء أثرهم لا يُمحى.

* المادة وُجدت للدعم ولم تكن يوماً الغاية الرئيسية، فكلّما زادت كثافتها أغرقتنا بعيدا عن النور والسرّ الحقيقي للدنيا والأخرة والسّعادة في الدارين، أما حين تحتل وظيفتها التي خُلقت لها فقط تسمو بالرّوح وتثبّتها على الطريق الصحيح.

لا يمكن لأحد أن يعطي ما لا يملك، لذا إن كانت نظرتك لنفسك قاسية ستكون كذلك لكل من حولك، والأَوْلى لك استبدال الحساب الدائم لها بالامتنان على ما استطاعت أن تقدّمه لك حتى الآن

* أرواحنا أقرب لبعضها البعض مما قد نتصوّر، نحتاج فقط أن نولّي نظرنا إلى الأعماق، نحتاج لرفع المصالح من بيننا وإيكالها إلى الخالق، ذلك كفيل بنشر السلام وإيضاح القرب الذي أودعه الله بيننا.

* أجسادنا تحتاج للعناية لتستمر بالعطاء. تحتاج إلى التطوير والبناء، إلى وعي بما يتم إدخاله عليها من غذاء ودواء. نحن بالعناية نثبّت رسالة الشكر لله عليها، "ولئن شكرتم لأزيدنّكم" صدق الله العظيم. لا يكفي الاهتمام بتطوير وتنوير العقول، فالعقول الفذّة تحتاج لأجساد قوية تحمل أفكارها إلى الواقع.

كنز التأمل

عوضاً عن الوقوف على أطلال عبادة التأمّل التي هُجرت وقليلاً ما يُدعى لها منفردةً في أيامنا هذه، سأجول في بعض مواضع جمالها. كانت ساعات التأمّل وتعلم التقنيات المتبعة من قبل المدرّبين بالمؤسسة، ضمن ما يسمى بالـ "middle way meditation"، تحتلّ جزء مهماً من الزمالة، والجدير بالذكر أنه كان هناك أيضا وقتا محددا لتمارين اليوجا، وهي تمارين حسية جسدية تزيد من التناغم بيننا وبين أجسادنا وتتيح لنا فرصة اختبار قدراتها الكامنة، ومن الناحية الأخرى تقبّل حدودها وتعلّم الاستجابة لاحتياجاتها. ساعدتنا تمارين اليوجا على التعامل مع حاجات أجسادنا بهدوء وسكينة خلال فترات التأمل والمحاضرات من دون الحاجة لقطع الانسجام في منتصف الطريق. أما عن تقنيات التأمل المتبعة فكان الآتي مما أودع في حياتي بصمةً لن تزول:

* التّنفس العميق، القيام بالشهيق والزفير من الأنف ببطء بحيث يملئ الهواء الصدر قدر المستطاع. تستطيع تجرّبة ذلك الآن لمرة واحدة وستشعر بثقل يخرج ببطء من صدرك مع نهاية الزفير.

* الشُّكر، الشُّعور بالشُّكر والامتنان على ما يمكن أن يُحصى من نعم ابتداءً بنعمة الحياة ووصولاً لكلّ النعم اليومية والتي لم نعد نلاحظ وجودها من شدّة الاعتياد عليها، الشُّكر يُوجب الوفرة من الله، هذه سُنّة كونية ستبدأ بمنحك السّعادة في نفس اللحظة.

* "المانترا"، يتم في هذه التِّقنية تحديد كلمة، أو قد تكون جملة صغيرة، لها أثر طيب في نفسك وتوحي لك بالراحة والهدوء، والقيام بتكرار هذه الكلمة مراراً أثناء التأمل والتفكُّر في معناها، فتساعدك على تهدئة الأفكار المتدافعة حتى تنحسر. ستُضفي لك حتما شعوراً بالراحة وحالة من الإيجابية تجاه نفسك. لم تكن هناك "مانترا" أفضل من الأذكار بالنسبة لي، فالذّكر بتفكّر وتمعّن يرفع بحالك لحال الاستسلام والتخلّي بالله عن كل ما قد يشغل بالك ويُكدّر صفوك.

* نشر المحبة والرّحمة، عندما تملأ نفسك بالحب من الله والرّضى عن نفسك وعن النِّعم من حولك، تستطيع أن ترسم بمخيلتك هالة من المحبة تحيط بك، ثمّ تبدأ بضم كل من تعرف إلى داخلها، من أحسن ومن أساء منهم بقدر وسعك، ثمّ تستمرّ بتوسيع دائرة المعارف الأقرب فالأبعد حتّى تشمل بدعوتك جميع أهل الأرض، فتتمنى السعادة والوفرة لكل من يسكنها. هذه العملية كفيلة بأن تزيد من شعورك بالغنى، القدرة على العطاء، وسعادة استثنائية.

لا شك أنّ التشابك الهائل بين هذه التقنيات والكثير من تعاليم الإسلام مُوجع على قدر جماله، إذ أنَّ هذه التقنيات تستخدم حديثاً في علاج أمور متعددة، ابتداءً من تصحيح سلوكيات وعادات خاطئة، زيادة القدرة على الإنتاجية والإبداع في الحياة اليومية والتأثير على الأهداف القصيرة والطويلة المدى، وصولاً إلى علاج مشكلات عصبية ونفسية وأمراض جسدية في بعض الأحيان. نحن توارثنا الدّين في صندوق ولم يقف المعظم منا طويلاً ليلقي النّظر بتمعّن على ما فيه من كنوز وتقنيّات لتساعدنا على سير الرحلة بإتقان ورقيّ.

رفع الوعي بالكلمات المستخدمة في حياتنا اليومية حتى أثناء الحديث مع أنفسنا له وقع خطير على حالتنا النفسية وأدائنا خلال اليوم، يحتاج ذلك لبذل قليلٍ من الجهد والقيام بتدريباتٍ مستمرةٍ
رفع الوعي بالكلمات المستخدمة في حياتنا اليومية حتى أثناء الحديث مع أنفسنا له وقع خطير على حالتنا النفسية وأدائنا خلال اليوم، يحتاج ذلك لبذل قليلٍ من الجهد والقيام بتدريباتٍ مستمرةٍ
 
علم المعرفة

من المواضيع التي تم طرحها في علم البرمجة اللغوية العصبيّة خلال المحاضرات، والتي أضافت وأثرت تجرِبتنا، موضوع علم المعرفة، والذي تضمن عدة محاور، من أهمّها أن الأشخاص في ممارساتهم اليومية يقومون بخطوة غاية في الخطورة بعد ورود المعلومات من حواسّهم إلى عقولهم، تتمثّل في قولبة هذه المعلومات ضمن معاني مصنّفة مسبقاً في العقل، فتتحول من المعلومة الحسّية البسيطة إلى معنى يستدرج معه مشاعر قد تكون سلبية.

مثال على ذلك، عند سماع شخص يتحدث من بعيد بصوتٍ عالٍ، ستقوم الحواس بإرسال معلومة إلى العقل بأن هناك من يتحدث بصوت عال من بعيد، إلا أنّنا في كثير من الأحيان نقوم بربط الصوت العالي بمعنى مصنّف في عقلنا مسبقاً، فبدلاً من وصفنا للصوت بأنه عالٍ، نصفه بجملة مثل : "هنالك صراخ من بعيد"، "هنالك شجار" أو "أنّ الشخص الذي يتكلم عصبيّ"، كل هذه المعاني ستجلب معها مشاعر سلبية إلى حدّ ما، وسنكون بغنى عنها لو قمنا بوصف المعلومة الدقيقة التي وصلت إلينا كما هي أو حاولنا استبدال المعاني المخزّنة لدينا بمعاني أكثر إيجابية.

رفع الوعي بالكلمات المستخدمة في حياتنا اليومية حتى أثناء الحديث مع أنفسنا له وقع خطير على حالتنا النفسية وأدائنا خلال اليوم، يحتاج ذلك لبذل قليلٍ من الجهد والقيام بتدريباتٍ مستمرةٍ والتي سرعان ما تلمس تأثيرها على أدائك ونظرتك للأمور.

في تقدير الذات

من أجمل ما تعلّمته في زمالة هي، أهميّة وكيفيّة تقدير ذاتي. حين تقدّر نفسك وتواجهها وتحبّ مميزاتها، عيوبها، قدراتها وحدودها، عندها فقط تستطيع أن تبدأ بالتحرّر من قيود الأحكام والانطلاق، لأنك حينها تمتلك قدر من الدعم الدّاخلي الذي سيحفظ اتّزانك حين يكون لا بدّ لك أن تقف لتدافع عن خطواتك وقراراتك.

لا يمكن لأحد أن يعطي ما لا يملك، لذا إن كانت نظرتك لنفسك قاسية ستكون كذلك لكل من حولك، والأَوْلى لك استبدال الحساب الدائم لها بالامتنان على ما استطاعت أن تقدّمه لك حتى الآن. تذكّر النّعم الاعتيادية، النّعم التي أصبحت تحصيل حاصل في حين أنّها مفقودة عند الكثيرين غيرك. تذكّر المواقف الصعبة والأيّام التي احتجت فيها للعمل الشاق والصبر لتتجاوزها، تذكّر أن نفسك هي التي كانت تقف إلى جانبك. بتقديرك لها ستمهّد الطريق لاستقبال وتقبّل كل ما تقدّمه لك الحياة من مواقف، أشخاص، منح ومحن. ستكون أكثر تماسكاً لأنك تستمدّ القوة من الداخل. كُنْ جيشك الأول والأكثر إخلاصاَ واسعد بذلك، كُنْ غنيّاً بنفسك قادراً على العطاء لأنّ منبعك الأساسي لا ينضبْ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.