شعار قسم مدونات

باتريس لومومبا وخاشقجي.. تفنى الأجساد وتبقى الذكرى خالدة!

باتريس لومومبا

أعادت قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده بإسطنبول إلى الأذهان سلسلة وقائع مشابهة لزعماء سياسيين ومثقفين وصحفيين وفنانين نذروا حياتهم نضالا في سبيل تمتع شعوبهم بحرياتها وحقوقها الطبيعية في التصرف في مُقدراتها بدون وصاية جهة أجنبية ولا بطش فرد مستبد أو تحت ضغط نظام توتاليتاري، فكان أن قضوا نحبهم قبل بلوغ غاياتهم المنشودة، مضيئين بدمائهم ليالي الطريق الطويلة إلى قيمة القيم؛ الديمقراطية.

نظريا، يبدو ألا وجه يصح للمقارنة بين باتريس لومومبا وجمال خاشقجي، فالأول زعيم سياسي كونغولي قاد حركة التحرر الوطني ببلاده حتى نيل استقلالها خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى أن اغتالته أيادي الاستعمار البلجيكي بعد أن ضاقت ذرعا بنزوعه التحرري، والثاني صحفي سعودي إصلاحي معتدل كان في صفوف النظام ثم غادره من الباب الخلفي محاولا المساهمة في إصلاحه من الخارج بعد أن أصبح الداخل خطرا على حريته وحياته. غير أن اختلاف صفات ومرجعيات الشخصيتين وبُعد المسافات الزمانية والجغرافية بينهما يُخفي وراءه وحدة كامنة متمثلة في شوق إنساني واحد إلى الحرية، ناضل كل منهما من موقعه وبطريقته وتحدى ظروف سياقه التاريخي والسياسي المُعاش من أجل تحققها كاملة بدون منٍّ ولا أذى من أحد.

لطالما حظي لومومبا بين أبناء وطنه بشعبية جارفة اكتسبها جراء مناهضته المستميتة للاستعمار البلجيكي كقائد للحركة الوطنية منذ عام 1958، ثم كرئيس للوزراء عقب فوزه حزبه في الانتخابات النيابية لعام 1960. وفي أثناء حفل تسليم ملك بلجيكا بودوان الحكم رسميا، ألقى لومومبا بالمناسبة خطابه الشهير "الدموع والدم والنار" الذي هاجم فيه تركة ثمانين عاما من الاستعمار البلجيكي للكونغو مذكرا بمعاناة الكونغوليين وما تعرضوا له من اضطهاد.

مهما تباينت الاختيارات الإيديولوجية والسياسية للشخصيتين وبدت المسافات الزمانية والجغرافية بين وقائع اغتيالهم متباعدة، إلا أن قاتلهم واحد؛ إنه نموذج أنظمة احترفت الاغتيالات السياسية لدُعاة الحرية

هذا الخطاب، بالإضافة إلى ما أبداه لومومبا من عزم على تصفية ما بقي وما أُريد له أن يبقى من مصالح للاستعمار البلجيكي بدولة الكونغو، قض مضجع البلجيكيين ودفعهم إلى التخطيط للإطاحة به التي تمت فعلا عبر انقلاب عسكري، ليُلقى عليه القبض رفقة عدد من أصدقائه في الكفاح، وأعدموا رميا بالرصاص، ثم قطعت جثتهم وذُوبت في حمض الكبريت على يد الضابط البلجيكي جيرارد سويت، الذي اعترف بجُرمه في لقاء تلفزيوني عام 1999. استدراج ثم قتل ثم تقطيع فتذويب، إنه المشهد الوحشي نفسه الذي تكرر مع خاشقجي الذي كان يرفض وسمه بالمعارض للنظام السعودي، مشهد يأبى كل ذي شعور سليم سماعه أو تخيل تفاصيله المقززة التي بلغتنا عنها روايات واعترافات متواترة يكاد حجم التضارب بينها يكون طفيفا.

إن اللحظة الأكثر وحشية من ضمن ما تسرب عن مشهد تقطيع جثة جمال خاشقجي هو طلب صلاح الطبيقي مدير الطب الشرعي بالأمن العام السعودي زملاءه بالاستماع للموسيقى في تلك الأثناء، وهي بالتمام ذات طريقة السفاح البلجيكي جيرارد سويت الذي كان يستأنس أيضا بالموسيقى -حسب اعترافه- خلال تقطيعه لجثة الزعيم باتريس لومومبا وتذويبها في حمض الكبريت. لقد اغتيل لومومبا الإنسان غير أن لومومبا الرمز لا يزال حيا في خُلد ووجدان الأحرار أينما وجدوا، فيما مات جيرارد سويت منبوذا وعدوا للإنسانية، بل في عزلة أجبره عليها ما تبقى من ضمير إنساني لدى بني جلدته من البلجيكيين. هكذا أيضا في عالمنا العربي، سيبقى خاشقجي رمزا لمناهضة الحكم المطلق عن بصيرة وباعتدال، وستظل ذكراه نذير شؤم وعَقبة كؤودا أمام محاولات بن سلمان وزبانيته لإعادة تأهيل صورة النظام السعودي الأوتوقراطي لدى الأنظمة والشعوب الحرة والرأي العام العالمي.

إن ما لم يدركه قتلة خاشقجي وسيؤدون ثمنه الآن أو بعد حين هو أن جمال الرمز أشد خطرا على سلوكهم التخريبي في السعودية ومحيطها من جمال الإنسان الصحفي الوديع بمقالاته الأسبوعية في واشنطن بوست وإطلالاته المتزنة على قناة الجزيرة وجرأته المحسوبة في الإعلام العالمي، إنهم بجرمهم هذا قد قتلوا شخصا، لكنهم في الحقيقة أحيوا في الناس جميعا إحساسهم بإنسانيتهم وكرامتهم وتوقهم لاستعادة قيم وأحلام ربيعهم العربي المُجهض. اليوم، لا يزال العالم يستحضر بلجيكا كلما تذكر الزعيم لومومبا، فلا مناص لها من تحييد تهمة تورطها في عملية اغتياله، ومن ثم إجهاضها لحلم شعب أراد الحياة تحت قيادة زعيم وطني ارتضاه حاكما له، كما لا مفر للسعودية من الاستمرار في نفي مسؤوليتها عن عملية استدراج وقتل جمال خاشقجي بوحشية داخل قنصليتها بإسطنبول.

في الأخير، مهما تباينت الاختيارات الإيديولوجية والسياسية للشخصيتين وبدت المسافات الزمانية والجغرافية بين وقائع اغتيالهم متباعدة، إلا أن قاتلهم واحد؛ إنه نموذج أنظمة احترفت الاغتيالات السياسية لدُعاة الحرية، هي في الوحشية والمكابرة سواء، لكنها -وللأمانة التاريخية- في الغباء درجات أكثر مستوياتها تدنيا وانحطاطا نظام بن سلمان، الذي لم تكد الأدوات التي أوكل لها تنفيذ جريمته تصل للرياض حتى انكشفت سوءته وبصمة يده في الواقعة، بينما ما تزال -على سبيل المثال- إلى اليوم تُتداول أكثر من رواية بشأن اغتيال الزعيم الأممي المهدي بنبركة، فيما ما كانت حقيقة قضية إعدام باتريس لومومبا تنجلي تماما، لولا اعتراف قاتله بمسؤوليته عن الجريمة من تلقاء نفسه الآثمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.