شعار قسم مدونات

لا تربطوا بين الاكتئاب وضعف الإيمان

blogs ألم

الحياة أفراح وأحزان، ولا يدوم على حال لها حال. فاليوم نجاحات ومسرات وغدا مآسي وويلات، وحلوها ينسيك مرها. ويبقى أملنا في الحياة متصلا لا ينقطع، إذ هو السبب الذي يصل الروح بالجسد، ويجعلنا نتطلع لما هو آت من روح الله الموعود في قوله إن مع العسر يسرا، متصبرين بحقيقة أننا قد نكره شيئا ويكون خيرا لنا، أو نحب شيئا وهو شر لنا، موقنين بعجزنا عن إدراك ما يخفيه المستقبل لنا. فكم من مصيبة أصابتنا، لندرك بعدها أنها سبب تغير حياتنا إلى الأفضل. وكم من نعمة ومسرات طرقت أبوابنا، وما عادت علينا إلا بالمشاكل والمتاعب. ولكننا نسلم هذه الأمور خيرا أو شرا للغد ليستبين أثرها، ونعيش اللحظة بما تتطلبه منا وتمليه علينا.

 

ونبقي على آمالنا المعلقة وأحلامنا الوردية نصب أعينا فلا نمل في طلبها ولا نكل. وقد صدق الطغرائي حين قال في لاميته: أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا والحظ عني بالجهال في شغل. أعلل النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. ولعل انعدام فسحة الأمل هو ما يميز المكتئبين عن غيرهم من الناس، فعلتهم تفقدهم الأمل الذي جبلنا عليه. فالمكتئب زاهد في الحياة دون حافز، نزاع إلى الانتحار بغير مبرر؛ فهو فاقد لهذه الرؤية المليئة بالأمل التي يمتلكها من عافاه الله من هذا المرض النفسي الذي يثقل كاهل المصابين به، وإنه حقا لثقيل على الأنفس ثقل أُحُد. ولو صحت تسوية ما يحسه الإنسان في ظروف صعبة وقاسية بالاكتئاب لصار الناس كلهم في كآبة، أو لكانت هذه الصفة ملازمة للبشر. ومن ثم، فما كل من أحس بالكآبة مريض بالاكتئاب.

وحقيقة الأمر أن الاكتئاب مرض نفسي لا يزول بزوال المصيبة أو نسيانها. فلا يغير حالهم كلام الدجالين الجدد ممن يغلون في التنمية الذاتية فيجعلونها دواء لكل داء، ولا يرفع عنهم حزنهم حب حبيب أو يغيره بغض بغيض. ولعلك أيها القارئ الكريم أدركت الآن أن القليل من الناس يعون معنى الاكتئاب، إذ نظنه لونا من الحزن والأسى. ولذلك نبالغ مجازا حين نعبر عن معاناتنا النفسية إثر مصيبة حلت بدارنا أو حدث قاسم للظهر ألم بنا بأن نقول إننا مكتئبون وأن الدنيا كلها اسودت أمام أعيننا. وحقيقة الأمر أن جل الأطباء النفسيين لا يعدون شخصا مكتئبا إلا إذا لازمته بعض الأعراض لأسبوعين على الأقل.

الذي يعانون من الاكتئاب لا يستطيعون التركيز ولا اتخاذ القرارات التي تخصهم، وإن كانت بسيطة في نظرنا. ومنهم من يفقد شهيته كلية، ومنهم من يصير شرها يأكل كل ما وقعت عليه يده أو عيناه

ولا يقتصر أثر الأمراض النفسية في جملتها على ما هو نفسي. فالجسد والعقل والقلب يرتبطون ببعضهم البعض في تكامل وتناسق وانسجام حير العلماء. ألم تر أن شرب الخمر يذهب بالعقول. ألم تلاحظ يوما أن عينك قد تكون مفتوحة مبصرة، وأن ما تراه أنت في تلك اللحظة ليس سوى تصورات ذهنية، وأنك في غفلة تامة عما يقع حولك. ألم يخطر ببالك يوما أن إحساسك بالخجل يجعل وجهك محمرا وجسدك مقيدا. وحقيقة الأمر أن الإنسان كائن ذو تركيبة معقدة يصعب فك شفراتها. ولكن العلم يتقدم ويتطور، ونعرف اليوم عن الجسد والقلب والعقل ما لم يعرف في ماضي الأزمان والحضارات.

وحتى لا نطيل عليك الطريق ونختصر لك المسلك، نحيطك أيها القارئ الكريم علما أن العوامل التي تسبب الاكتئاب عديدة، منها ما يرتبط بما هو نفسي كالتفكير السلبي وعدم الثقة بالنفس. ومنها ما هو بيولوجي يتعلق بوجود عدد قليل أو كثير من عناصر كيميائية معينة بالدماغ. كما أن الاكتئاب قد يصاحب بعض الأمراض التي يصاب بها شخص ما مثل أمراض القلب، والسرطان، والسكر، والزهيمر، واضطراب الهرمونات.

 

زد على ذلك ما هو وراثي -يتوقف على وجود المرض في شجرتك العائلية من عدمه. وأما الأمر الذي يعرفه الجميع ويفسرونه بالاكتئاب، فهو ما يعرض للمرء من ظروف صعبه كموت قريب أو حبيب، أو طلاق، أو مشاكل مادية، إلى غير ذلك من ويلات الحياة. ولعل الغريب في أمر الاكتئاب أن النساء عرضة له أكثر من الرجال بنسبة تصل إلى الضعفين تقريبا. وما يزيد من الحيرة والدهشة أن تجليات المرض تختلف بين الجنسين اختلافا كبيرا لا نجد مساحة لذكرها هنا.

وأما أعراض الاكتئاب فمنها ما هو نفسي وما هو بدني كذلك. أما من الناحية النفسية، فإن الذي يعانون من الاكتئاب لا يستطيعون التركيز ولا اتخاذ القرارات التي تخصهم، وإن كانت بسيطة في نظرنا. ومنهم من يفقد شهيته كلية، ومنهم من يصير شرها يأكل كل ما وقعت عليه يده أو عيناه. ويتولد عندهم إحساس بالذنب واليأس ونكران الذات، وتغزوهم جرعة زائدة من التشاؤم. كما أنهم إما أن يصابوا بأرق يقض مضجعهم أو يناموا جل الوقت لإحساسهم بخمول وكسل غير معهود.

 

ويتغير طعم الحياة ويتمنون لو أنهم ما كانوا ولا خلقوا كالغول والعنقاء، ودوا لو أن الأرض ابتلعتهم وما استمروا في حياتهم البئيسة، فالدنيا كلها ظلام والنفق طويل مظلم لا سبيل لعبوره. وأما بدنهم فيتأثر بهذا كله، فيحس بعضهم بالدوار أو بآلام وتشنجات في أمعائه. كما يعاني آخرون من أوجاع الرأس والظهر ومشاكل هضمية. وكل هذه الأدواء البدنية لا ينفع فيها دواء ولا يخفف حدتها شراب. فمثل المكتئب كمثل امرئ مجبر على لفظ ما في جوفه من سم زعاف يتسلل إلى كل خلية من جسده، إلا أن المسكين لا فم له، فهو يموت كمدا ويتقطع كبدا، ولا تُسمع له صرخة ولا يسمع له أنين، والناس من حوله حيارى حول ما به، لا يستطيعون له فهما ولا يعرفون لدائه وصفا.

ولكن الجانب المشرق من هذا كله أن جل حالات الاكتئاب قابلة للعلاج. ومرضاها يشفون طالت مدة العلاج أم قصرت. ويختلف العلاج حسب حالة المريض، فمنهم من ينفع فيه التحليل النفسي، ومنهم من يحتاج إلى مضادات الاكتئاب وغيرها من الأدوية التي توصف لهم من الأطباء النفسيين المختصين بهذا اللون من العلاج. وهنالك من المرضى من يحتاج لصنفي العلاج، أو يمزج بين العلاجين حتى تكون النتائج أفضل وأسرع. ولكن المشكل الحقيقي أن قليلا من الناس فقط يتفهم حالة المكتئب، ولذلك تزداد أحواله سوءا، سواء كان ذلك لعدم التشخيص المبكر، أو لقلة وعي الآباء والإخوة والأصحاب الذين هم أقرب الناس إليه. لكأن المريض يختار السقم ولا يحب لنفسه العافية. وما نعلم إنسانا سويا يحب المعاناة أو يطرق بابها، ولكن قومي لا يعلمون.

كلنا معرضون للاكتئاب بفترة من فترات عمرنا، ولاسيما بهذه الحقبة المريرة من تاريخ أمتنا العربية الإسلامية، ولذلك على المرء أن يحرص على صحته النفسية ويعتني بأهله ويقدر ظروف الآخرين ولا يتسرع بالحكم عليهم
كلنا معرضون للاكتئاب بفترة من فترات عمرنا، ولاسيما بهذه الحقبة المريرة من تاريخ أمتنا العربية الإسلامية، ولذلك على المرء أن يحرص على صحته النفسية ويعتني بأهله ويقدر ظروف الآخرين ولا يتسرع بالحكم عليهم
 

يخلد الغرب في شهر نوفمبر من كل سنة أسبوعا كاملا للتوعية بالصحة النفسية، حتى لا تبقى على شخص حجة. ويفرد القوم يوم الحادي عشر منه للاكتئاب خاصة. وحقيقة، ما فهمت يوما ما معنى الاكتئاب، ولكن تدريسي لآحاد من الطلبة الذين أعجبت بذكائهم الملفت واتقاد أذهانهم في سياقات عديدة، ثم استغربت من بعض تصرفاتهم غير السليمة، وانتبهت لنتائجهم المخيبة للآمال، جعلني أبحث في أمرهم. فسألت عن بعض الحالات، فأُخبرت بما كنت غافلا عنه. لم أكن أعلم ما وراء تلك الوجوه الشاحبة والأعين المنتفخة. لم يخطر ببالي أنهم يشربون دواء يخفف عنهم حدة الاكتئاب وأنهم على غير طبيعتهم. كانوا أشباحا في أجساد بشر.

حينما نكون بصحة وعافية لا نقدر يعانيه غيرنا ولا نحس به، إما لجهل أو جهالة. وأما ما دفعني لكتابة هذا المقال، وهو أمر يشغلني حقا ويزعجني كثيرا، أن أمتنا تدعي كمال صحتها النفسية، وتعزو كل الأمراض النفسية لقلة الإيمان بالله. وإن هذا لخطأ عظيم؛ ما جاء بهذا وحي ولا نزلت فيه آية. وإن كنا نرى الإيمان قوة دافعة ومحفزا على الصحة العقلية، إلا أن الأمراض النفسية كنظيرتها البدنية: قد تكون وراثية، أو ابتلاء من عند الله ليمحص به القلب من شوائبه ويعفو عن كثير، أو لضعف مناعي أو تغذية سيئة، أو ظروف صعبة، وهلم جرا.

والذي يجب علينا أن نعيه هو أن الأخذ بالأسباب مطلوب، والحرص على صحة البدن والعقل من الأمور التي لا تقوم الحياة إلا بها. والحقيقة أننا كلنا معرضون للاكتئاب في فترة من فترات عمرنا، ولاسيما في هذه الحقبة المريرة من تاريخ أمتنا العربية الإسلامية. وخاصة أن الضغوط النفسية ازدادت في هذا العصر الذي يشهد ازدحاما كبيرا للأفكار والثقافات. فلم يعد الإنسان يعرف لنفسه هوية يتشبث بها. ولذلك على المرء أن يحرص على صحته النفسية ويعتني بأهله ويقدر ظروف الآخرين ولا يتسرع في الحكم عليهم، فلربما كنت أنت المبتلى. نسأل الله الشفاء لجميع المرضى ودوام العافية لمن هو بصحة جيدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.