يعيش الإنسان في حياته باحثا عن كمالِه النّاقص، يهرول حينًا ويندفع، يتباطآ آخرَ ويتراجع، في رحلتِه الوقتيّةِ الزائلة يسعى مفتّشًا عن مَا يشغلُ ثغراتِه، ما يُكمِّل نقائصَه، ما يشدُّ عضُدَه ليرشدَه في ماهيةِ الضَّياع فيه عن قشّةِ نجاتِه، ما يشابِه روحَه، عقلَه، مشاعرَه، شَخْصَه ودورَه، قد يُصِيب في بحثِه ويتمُّ التلاقي والمَزج ويَصلُح حالُ الممزوجَين، وقد يُخطِئ لِتهوّرِ خِيارٍ أو تنكُّرِ أسرارٍ مكذُوبةٍ أُضمِرَت في غَورِ دفائِن كلِّ واحدٍ فيسُوء الوضعُ لسوء تكامُلِ المُتلاقِيَين، فلا يقدر أن يعيش دون جزئِه المفصُول عنه، يتوقُ ونقصَه لِلُقيَاه، فيبحثُ في عَجزٍ وحاجةٍ عن نصفِه الآخر.
النصف الآخر يكون على هيئةِ أمٍّ وجنينها، زوجٍ وزوجِه، صديقٍ وصديقِه، مفكِّرٍ ومناقِشِه محبٍّ وحبيبِه، يشكّل كلٌّ منهم للآخرِ حلقتَه المفقودةَ التي لا يُعوّضهَا إلّا هو ولا تُستبدَل إلّا به ولا يَحِلُّ محلّهَا إلا حِلُّه، نصفٌ انتُزِعَت منه قطعٌ ليتشكَّل بها النِّصفُ الآخر، النّصف المصطفَى له، والمختارُ من بين كلّ الأنصافِ المتلهّفةِ أيضًا وراءَ بحثِهَا عن نقصهَا المزروعِ فِي أشخاصٍ آخرين.
منذ انبعاثِ الرّوحِ فيهِ يُشكّل الجنينُ مع أمِّه بنيةً حياتيةً لنفسِه، فهُو في حاجةٍ لغذائِه، حمايتِه وأحاسيسِه الفطريّةِ التي توفِّرُها له الأم في أحشائِها، وأيضًا هي تحتاجُ منه قدرَ الشّعورِ الذي يُوفِّي حِسَّ الأمومةِ فيها، يتواصلُ النِّصفانِ في تكاملٍ بنيويٍّ مبهر ليسدَّ كلٌّ النقصَ فيهِ بالآخر. يَلمحُ خيطَ النّورِ الأوّل، يستنشق كمَّ الهواءِ الأول، فيصرخُ صرخةَ بدايةٍ يحرّكُهَا عجزُه ونقصُه فيه، وتستجيب غريزةُ الرأومِ لتُلبّي فتكمِّل دورَ أمومتِها برضيعِها.
يشِبُّ ويداهمُ كيانَه شعورُ النَّقص من جديد، هاته المرة حاجةٌ لسَدِّ فراغِ روحِه وإصلاحِ اعوجاجِ نفسِه والاستدلال من تَيْهِ مُضِيِّه، فيميلُ إلى توأمٍ يوفِّرُ له الدَّعمَ الرُّوحِي والنفسيَّ والإرشاديَّ على هيئةِ صديقٍ نصف مكمِّل، ويَرِفُّ كيانُه في تَوقٍ لمن يلتقطُ خيطَ روحِه في حبٍّ ودفئِ رِفقَة، ويكون كلّ نصفٍ للآخرِ في الحبِّ والصدقِ النِدّ ويَتنافسانِ بطُهرِ قلبِ الصَّحبِ في الردّ وإذا بثغراتِ روحَيهِما بروحِ الآخر تُسَد.
والعقلُ إذا فكَّر سعى لتنقيحِ العلمِ فِيه، فيبحثُ عَمَّن يُصحِّحُ زَلَّاتِه، ويجودُ عليه بهطولِ غيثِه وسلامةِ نظرِيَّاتِه، وإذا ما حَمَلَ في تلافِيفِهِ أفكارًا بحث عمَّن يُشاطرُه فيها أو يُقيِّمها له أو يوسِّعُها فيه ويوسّع آفاقَ تمحيصه بِه، فضَربَ في فنونِ المناقشةِ والمُحاجَجَةِ ضُرُوبَ السٌعيِ العلميٌ عَلَّه يسترشِدُ عمَّن يزيدُهُ مقدَارَ علمٍ على دِرايتِه.
وهو في كلّ حالاته نصفُ حبيبِه وزوجِه، فتجدُه إذا دقَّ ناقوسُ الحاجةِ لديه سعى باحثًا عن شريك حياته ليكمّل نصف دينه ودنياه بنصفِه الآخر، الرّجل يبحث عن امرأةٍ تُوَفِّيه حاجتَه من الحبّ والحنان والعطف والاهتمام، وكذلك المرأة يدفعها ضعفُ بنيتِها ونفسِها إلى البحثِ عن درعِها، نصفِها الذي يُحِيطُها بالحمايةِ والأمان، ما لن تجدَه في شخصٍ آخر ولن يُوفِّره لها غيرُه.
هاته الأنصافُ لا يُشتَرط فيها التّماثلُ الشّكلي والروحي والفكري إذ تجدُ أنَّ كلَّ واحدٍ اختصَّ بميزاتٍ لا تتوفَّرُ في الآخر حتّى يسُدَّ ذلك النَّقصَ فيه، فجُبِل على استكمالِه له والتَّغطِيةِ عليه بما خصَّه اللَّهُ بِه من هباتٍ ومِنَح تَفرَّد بها عن غيرِه من الخلق، أنصافٌ مُحدّدةٌ لبعضِها بحكمةٍ إلهية، مترابطةٌ بخيوطٍ روحِيّة، تلتقِي بصُدفٍ قَدَرٍ مكتوبةٍ مُوقَّع بإرادةِ المولى عزّ وجلٌ.
ولا يكون البحثُ عن النّصف الآخر بجَوْبِ الأرض تفتيشًا عنه، ولا إسرافِ العُمر في انتظارِ قُدُومِه، وحدَه المولى يختصِر لهما المسافاتِ والأزمان ويصهر كلَّ الأبعادِ إن شاء بقَدَرِه لمَّ شملِهِما، وإن شاء زادَ فيها تمدُّدًا لحكمتِه حتّى يَأذَنَ بالتَّلاقي. وأنتما وإن لم تكونا بدرايتِكُما البسيطةِ تَريَان ذلِك التَّكامُل بينَكُما، فاللَّه دون شكٍّ يعلمُ تشابُكَ حبالٍ في نفسَيكما تُكمِّل بها الواحدةُ نسيجَ الحاجةِ في الأخرى، وقد لا تحيطُ بثغراتِك درايةً ما يجعَلُك لا تُحِسُّ بمكمِّلاتِها في شخصٍ آخر ولكنه بقَدَرِه يصنعُ لك منها ما يتغلغلُ فيهَا ليعدِّلها ويزرعه في ذلك الشّخص الذي سيكُون يومًا ما بإذنه نصفَكَ الآخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.