كما يُقال وحدها المواقف والأزمات تكشف معادن الناس، وقد يأتيك الموقف كجواب على سؤالٍ في ذهنك، كنت قد طرحته في يوم من الأيام، وهنا تنكشف لك الحقائق والتساؤلات التي كنت تجهلها. في مهنتنا الصحافة والإعلام نحن مطالبون باتخاذ موقف حيال التطورات والأحداث الراهنة، بما يتناسب مع ضمائرنا وأخلاقياتنا وصوناً للمبادئ التي تربينا عليها، فمثلاً كأن تبدي رأيك بقضية من القضايا المفصلية التي يتعرض لها شعب من شعوبنا العربية، كفساد المسؤولين أو سوء استغلال السلطة أو حتى قمع الحريات، والذي يُمارس بشكل علني في وطننا العربي.
دعوة لاتخاذ موقف وجهها لجميع الصحفيين
"لا نستطيع كصحفيين أن نكون محايدين كان يجب علينا تسجيل موقف، تلك لحظة مفصلية في التاريخ، العالم العربي ينتظر منذ زمن بعيد لحظة الحرية هذه، فكيف أنت كصحفي تأخذ موقف الحياد تجاه قضية كبرى تمس الوطن العربي". هذا مُقتطف بسيط من ما قاله الصحفي السعودي جمال خاشقجي في أحد المقابلات التلفزيونية قبل استشهاده بأيام داخل القنصلية السعودية بتركيا.
دعوته لاتخاذ موقف والتعبير عن الرأي كصحفي وعدم السكوت عن الظلم، كان أحد مبادئه وركيزة من ركائزه خلال مهنته الطويلة في مجال الصحافة، وكتابة المقالات التي فندت كل ما يجول بخاطره، وما ينسجم مع مبادئه كصحفي مُطالب باتخاذ موقف، حتى وإن كان هذا الموقف ضد بلاده فالظلم ظلم والقمع قمع لا يوجد هنا أبيض وأسود.
قول الحق قد يُكلفك حياتك
قول الحق والوقوف ضد الظلم والتعبير عن الرأي والرأي الآخر، لا ينسجم مع الأساس الذي بُنيت عليه بعض الأنظمة العربية فهناك خطط ومشاريع مؤامراتية، لا يجب أن يعلم بها أحد، سوى رأس السلطة |
لم يعلم جمال خاشقجي أن دخوله إلى قنصلية بلاده في إسطنبول ستُنهي حياته إلى الأبد، وستعقد أجهزة مخابرات العالم الكثير من المشاورات والبحوث لمعرفة الرواية الحقيقية لمقتله، وكيف تم تقطيعه إلى أجزاء على أنغام الموسيقى ناهيكم عن الروايات المشوقة التي تم تأليفها من داخل القنصلية، بالعودة إلى الانتقادات الطفيفة التي وجهها خاشقجي بما يخص سياسة بلاده، وتعاطيها مع القضية الفلسطينية والملف السوري، نرى أن الانتقادات البسيطة تمت معاقبته عليها في قنصلية بلاده بتقطيع جسده! لا أعلم تحديداً في القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، ماذا بإمكاننا أن نسمي هذه الحادثة، أو هذا الفعل بحق صحفي عبر عن رأيه وقال كلمته وكان سلاحه الوحيد قلمه..
قال رأيه ولم يعارض العائلة الحاكمة
المُطّلع على مواقف وآراء جمال خاشقجي، يُدرك تماماً أن الرجل لم يعارض أو يروج ضد النظام السعودي، بل تجده مناصراً له في كثير من القضايا والسياسات، ولكنه يختلف معهم في طريقة التعامل مع بعض الملفات، وطريقة معالجتهم للقضايا التي تخص المنطقة العربية، وانتقد بعض الأمراء بشكل عام بما يخص قضايا الفساد في المملكة.
بعد إيقافه عن الكتابة في صحيفة الحياة اللندنية، بسبب تجاوزاته كما ذكرت الصحيفة، نشر تغريدة على موقع تويتر كتب فيها "سأظل بإذن الله، لا أكتب إلا ما يمليه عليّ ضميري، فمصداقية الكاتب هي السمعة التي تبقى له". لينتقل للكتابة فيما بعد في صحيفة "واشنطن بوست" وكتب مقالاً بعنوان "السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد حاليا غير محتملة" تحدث فيه عن غربته، وبعض تفاصيل حياته، وعن عدد من الأمراء بتهمة التورط في قضايا فساد، ووصف المملكة بأنها باتت تحوي مناخاً من الخوف والترهيب، وأضاف حرفياً "نحن لا نعارض حكومتنا، نحن نحب كثيرا المملكة العربية السعودية، إنها منزلنا الوحيد الذي نعرفه أو نريده، ومع أنا وذلك نحن العدو، فبضغط من حكومتي، ألغى ناشر إحدى أكثر الصحف العربية قراءة، وأوسعها انتشاراً صحيفة الحياة مقالتي ،وعمدت الحكومة إلى حظري من استعمال تويتر عندما حذرت من احتضان مفرط للرئيس الأمريكي المنتخب ترامب".
هذا المقال أثار غضب السعوديين، وقاموا بمهاجمته على موقع تويتر رافضين مضمون المقال، وما يحمله من إشارات عن قضايا فساد، وملاحظات إيجابية وإصلاحية تصب بمصلحة الشعب السعودي، المفارقة هنا أنه إذا قام أحد الصحفيين الأمريكيين بنشر هذا المقال، ووجهه للشعب الأمريكي، أراهنكم على أنه سيلقى ترحيباً وحفاوة لا يمكننا مقارنتها بردة فعل وهمجية كل من عارض المقال وانتقده، في بلادنا العربية أعتقد هنا أن التنشئة الفكرية لها دور كبير في آلية استيعاب النصائح، والملاحظات المقدمة لنا من الآخرين.
النتيجة والمحصلة..
إنهاء حياة صحفي سعودي، تربى على حب بلاده وارتبط بحب عائلته، وكتب الكثير والقليل لمصلحة شعبه، مُشيراً إلى قضايا الفساد ونقاط الضعف، ومنحازاً لقضايا الأمة العربية بكل واقعية وتجرد، عارضه الكثيرون غير مقتنعين بمعارضتهم له رغماً عن ذلك أحبوه بصمت، خوفاً من أن يلقوا المصير ذاته الذي تعرض له الصحفي السعودي، مؤمنين بأن ذكراه ستبقى في قلوبنا ومقالاته وتغريداته محفورة في عقولنا.
قول الحق والوقوف ضد الظلم والتعبير عن الرأي والرأي الآخر، لا ينسجم مع الأساس الذي بُنيت عليه بعض الأنظمة العربية فهناك خطط ومشاريع مؤامراتية، لا يجب أن يعلم بها أحد، سوى رأس السلطة، فعندما نتكلم عن الجسم الصحفي خارج هذه الدائرة، فنحن نتكلم عن فضح ممارسات ومشاريع هذه الأنظمة، وهنا تضيق الدائرة ليصبح الصحفي هو العدو الأول، لأي نظام شمولي والذي بدوره يقوم بتصفية كل من لا يتفق معه..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.