شعار قسم مدونات

من الآلة إلى العاطفة.. هل أنتجت أوروبا الحب؟

blogs الحب

أخذتْ أوروبا على عاتِقها مسئولية إنتاج التاريخ، وهذا يعني أن يتم تَصوُّر الماضي والتّجارب الإنسانية وعرضهما وفقاً لما حدث داخل السياق الزمكاني لأوروبا، ثم يُفْرَض ذاك التصور -الأوروبي الأصل- على بقيّة العالم في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية. وبهذا تَدّعي أوروبا أنها أنتجت كلّ المعارف والنُّظم الإنسانية، وأن الحضارة الأوروبية هي مركز كل الحضارات، وبالتالي لا يمكننا فهم إنجازات الحضارات الأخرى، دون الرجوع أو الانطلاق من الميدان الأوروبي. بكلام بسيط، نجح المجتمع الأوروبي في فرض نفسه كمركز لاختراع لجميع أشكال المعرفة، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعاطفية، بينما تظل بقية المجتمعات في خانة الهوامش، أو التوابع.

والأمر الذي لا يُخْتلف عليه كثيراً هو أن أوروبا الغربية أنتجت الصّناعة والآلة، وحدث ذلك إبّان الثّورة الصناعية التي ضربت أركان القارة العجوز في القرنين الثامن، والتاسع عشر الميلادِيّين. إلا أن المريب في الأمر نفسه أن أوروبا بمجرد اختراعها للصِّناعة، والآلة ومن ثمّ تصديرها إلى مجتمعات جنوب العالم في أشكالٍ وصورٍ مختلفة، عمِلت بعقلية المخترع، وذلك من أجل جعْل كل العالم أوروبيا، او هكذا يجب أن يكون لينال الاعتراف. وبالتالي فإن كل النظم الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والعاطفية المُخترعة خارج السياقين الزمكاني لأوروبا تُعتبر نظم تقليدية، وجنينية، وبدائية لا تستحق الاعتراف.

هذا ما يراه ويعتقد فيه الرجل الأوروبي الأبيض، ويقول بثقة عمياء أن أوروبا أنتجت كل شيء حتى العواطف. إذا سلّمنا مبدئيا بهذه الفكرة، وسلّمنا أيضا دون الدخول في مغالطات، وجدالات، أن أوروبا اخترعت الديمقراطية، والعائلة، وأشكال العدالة، والسوق، وغيرها. هنا يبرز سؤال مُحيّر، وهو كيف نُسلم أن أوروبا اخترعت العواطف الانسانية.. خاصة الحب؟ ينظر إلى الحب على أنه شعور انساني مُتأصل وفعّال يقرِّب المسافات بين البشر ويختصر الفوارق في الجنس والشكل واللون، ويذيب الحواجز بين الطبقات ويقرب بين الناس. وهو بذلك عاطفة إنسانية، تحمل في طياتها جوانب عديدة، وصور مختلفة. فلماذا ادعت أوروبا أنها انتجته؟ مثله مثل الآلات والصناعة؟ لماذا ينظر إلى شكل الحب في أوروبا على أنه الأفضل؟ بكلام آخر، هل الحب عاطفة أوروبية خالصة؟


العاطفة المسروقة:
الحب الرّومانسي الذي زعمت أوروبا اختراعه على يد "دوبي" وشعراء التروبادور، عن طريق الشعر الغنائي، ما هو إلا ادّعاء نابع عن التمركز حول الذات

اشتغل عالم الاجتماع جاك غودي على نقد وتفكيك المركزية الأوروبية -نقدها من الداخل- ودحض ادّعاءاتها، ويذهب غودي إلى أن أوروبا ترى نفسها فريدة ومنقطعة النظير، ومن أجل ذلك لم تكتفِ بالزّعم بملكية مؤسسات معينة، وإنما حدث الشيء نفسه مع بعض العواطف، على وجه الخصوص عاطفة الحب. ومن هنا فقد تم النظر إلى بعض أشكال الحب، وأحيانا إلى فكرة الحب نفسها بوصفها ظاهرة غربية محضة. ويزعم البعض أن "الحب الرومانسي" وُلد في مجتمع "التروبادور" في أوروبا في القرن الثاني عشر. ويمتد هذا الزعم ليحصر الحب في "الشعر الغنائي" فقط؛ حيث يقول عالم الاجتماع نوربرت إلياس: إن ما ندعوه نحن الحب، ذلك التحول للسرور، وذلك الظل للشعور، وذلك التسامي للعواطف وتهذيبها، جاء إلى الوجود في المجتمع الاقطاعي لشعراء التروبادور، ويتم التعبير عنه في الشعر الغنائي.

والمشكلة هنا، أن أوروبا ترى في هذا الشعر الغنائي الشكل الأول، والأمثل والأفضل للحب، وما عداه لا يجب النظر أو الالتفات إليه. وفي الحقيقة، كون ما نراه هنا جنسا أدبيا شعريا جديداً اخترعته أوروبا في تلك الحقبة، أمر لا يمكن الشك به، ولكن لا يوجد أي دليل عن اكتشاف، أو اختراع مشاعر جديدة عموماً. وبالتالي فإن هناك تعابير عديدة عن الحب موجودة خارج السياق الأوروبي، وإن الزّعم بأنه ظهر لأول مرّة في أوروبا الاقطاعية هو زعم لا يمكن تـأييده.

على كل حال، حتّى هذا الشكل من التعبير عن الحب ليس خاصاً وفريداً، ومنتجا أوروبيا خالِصا. فقد وجد المؤرخ القديم "كيث هوبكنز" قصائد حب في مصر القديمة مكتوبة بين أخت وأخيها، حيث كان يسمح لهما أن يكونا شريكين. ومن ضمن تلك القصائد العشقية الجميلة التي تعود إلى عهد الأسرة التاسعة عشر أو العشرين في مصر القديمة، حيث جاء في "بردية هرسي" هذه الأبيات: "أنا أختك الأولى.. وأنت لي كالرّوضة التي زُرعت فيها الأزهار والأعشاب العطِرة جميعها.. وأُجرِيتْ فيها غديراً، لكي تضع فيها يديك، إذا ما هبت ريح الشمال الباردة". 

ونجد في الصين في وقت مبكر يصل إلى القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، نجد قصائد حب موجودة في كتاب الأغاني، وفي منتصف القرن السادس قام شاعر البلاط "هسيو لينغ" بجمع مجموعة كاملة من قصائد الحب معاً وسمّاها "أغانٍ جديدة من شرفة حجر اليَشْم" مكوّنة إلى درجة كبيرة من شعر يعود إلى تقليد ارستوقراطي لبلاط الصين الجنوبية.

وفي حضارة ما بين الرافدين يمكننا استشفاف وجود الحب من خلال النصوص الأدبية كملحة جلجامش التي تشتمل على مواقف عشقية بين "جلجامش" البطل، والآلهة "عشتار" آلهة الحب والجمال. ويقدم لنا الغزل السومري نماذج واضحة للمشاعر العاطفية التي كانت سائدة في ذلك العصر أهمها بلا شك ترنيمات الحب التي كُتبت لعشتار والتي تقول في احداها: "يهرب قلبي.. فيصعد كالطير في السماء.. أنتِ كالحمامة.. أنا أحب كل يوم".

بهذه الطريقة، يُصبح الحب الرّومانسي الذي زعمت أوروبا اختراعه على يد "دوبي" وشعراء التروبادور، عن طريق الشعر الغنائي، ما هو إلا ادّعاء نابع عن التمركز حول الذات، ومحاولة جادة لإقصاء وابعاد كل ما هو ليس غربي، والدفع به إلى خارج التاريخ، ومن ثم إعادة انتاج الذات ومعطياتها الثقافية على أنها الأفضل. وبما أن هذه الأشكال من الحب كانت موجودة في سياقات جغرافية أخرى خارج أوروبا، في مصر القديمة، والصين واليابان، فإن الزعم بأن عاطفة الحب، هي اختراعا أوربيا هو زعم غير صحيح بالمرّة.

الحب موجود في كل زمان ومكان، ليس له بيت واحد، أو مصنع واحد، لو كان مثل الآلة لقلنا أنتجته إنجلترا، أو فرنسا، لكنه ليس كذلك، لأنه عاطفة إنسانية، تتميز بوجودها في كل مكان
الحب موجود في كل زمان ومكان، ليس له بيت واحد، أو مصنع واحد، لو كان مثل الآلة لقلنا أنتجته إنجلترا، أو فرنسا، لكنه ليس كذلك، لأنه عاطفة إنسانية، تتميز بوجودها في كل مكان
 
الحب والدّين:

حسّت الديانات السماوية كلها على المحبة، والسلام. والواقع أن ثمة توافق بين الحب والدين. ويرىى "توينبي" إن الغاية المنشودة من وراء الايمان بالدين بمختلف اشكاله ومظاهره، هي ايمان البشر بمزيد من الحب. تعتبر اليهودية من أقدم الديانات السماوية، وقد عالجت موضوع الحب في بعض نصوص العهد القديم، فحفلت الأسفار اليهودية بقصص الغرام التي تعد وسطا بين التاريخ والشعر، مثل قصة "راعوث واستر" و "دوديت ودانيال" وإبراهيم عليه السلام وزوجته سارة. كما ان المحبة تشكل الموضوعة الرئيسية في الديانة المسيحية. وقد جاء في الكتاب المقدس: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، يحبه أبي وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي".

أما في الإسلام فإن القرآن الكريم حسّ على الحب، حيث كانت نصوص القرآن فيما يخص العاطفة الإنسانية واضحة وصريحة وذات دلالات اجتماعية واخلاقية، فقد ورد لفظ الحب ومشتاقته في القرآن الكريم في أكثر من موضع. جاء لفظ الالفة الذي يعبِّر عن الجمع بين القلوب، يقول تعالى: "اذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم". وفي موضوع آخر ورد لفظ المودة، وهي من الود أو الحب. يقول تعالى: "وجعل بينكم مودة ورحمة". الحب إذن موجود منذ قديم الزمان، منذ بداية الخلق، وفي كل الديانات السماوية، التي نزلت على البشر في سياقات جغرافية مختلفة. والقول إن الحب هو اختراع أوروبي، هي مجرد افتراءات بائسة، وادعاءات كاذبة، الهدف منها طلاء العالم، بدهان أوروبي استعماري، يختزل كل الألوان في لون واحد، يُدعى أوروبا الغربية.

الحب موجود في كل زمان ومكان، ليس له بيت واحد، أو مصنع واحد، لو كان مثل الآلة لقلنا أنتجته إنجلترا، أو فرنسا، لكنه ليس كذلك، لأنه عاطفة إنسانية، تتميز بوجودها في كل مكان. قد تختلف الطريقة التي يُعبَّر بها عن الحب من مكان لآخر، فليس ضروريا أن يُعبِّر المزارع الذي يعمل في الحقل في احدى القرى الإفريقية البعيدة عن حبه لزوجته مثلما يفعل ذاك الأوروبي الأبيض الذي يقيم في احدى المدن الصناعية الغربية. الأمر مختلف تماما، لأن ذاك المزارع لديه طريقته الخاصة في التعبير، لديه ثقافته، وأفكاره، ومعتقداته الشخصية التي تختلف بالضرورة عن ذاك الأوربي. لكن المعضلة هنا، أن ذاك الحب الأفريقي القروي، يُنظر إليه على أنه شكل هامشي غير معترف به. وفي المقابل ينظر إلى ذاك النوع من الحب الأوروبي الصناعي، على أنه النوع الأمثل والأفضل للحب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
* غودي، جاك، سرقة التاريخ، ترجمة: محمود محمد التوبة، الرياض: مكتبة العبيكان، 2009.
* إبراهيم، عبد الله ، المركزية الأوربية، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.
* كامل الآلوسي، عادل، الحب عند العرب، بيروت: الدار العربية للموسوعات، 1999.
* ماريون، جان لوك، ظاهرة الحب: ستة تأملات، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2015.
* أوشو، الحب، والحرية والفردانية، اللاذقية: 2013.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.