شعار قسم مدونات

قواريرٌ متصدعة.. وأحلام موؤودة على أياد لا تعرف الرحمة

blogs فتاة صغيرة فقيرة

أخذت الديكة بالصياح بصوتٍ عال، وازدادت الحركة في قن الدجاج، وكأنها حفلة موسيقية صاخبة، الدجاج يركض بشكل مجنون، والديكة تصيح بصوت أشبه بالزعيق، لأن أيد صغيرة كانت تمتد نحو البيض الصغير الدافئ المتكوم داخل القش، كانت فاطمة الصغيرة ذات التسع سنوات تستيقظ قبل الفجر، تحمل المصباح ذو الضوء الخافت وتجمع البيض، لتحضر الفطور، وتعد الماء الساخن قبل استيقاظ سيدها، ما إن يصدح أذان الفجر حتى تهرول بقدميها الصغيرتين تركض مسرعة لتصب الماء على يد سيدها الأربعيني المتكور البطن، المكتنز بالشحم، ولتعد الفطور بمعاونة سيدتها كي لا يتأخر أطفالها عن المدرسة، ولكي يفهموا جيداً، لربما استطاعوا أن يفهموا حرفا مما يشرحه لهم المعلمون.

 

عند السادسة كان الأطفال الثلاثة ينصرفون إلى المدرسة مصحوبين بقبلات الأم ودعوات الأب لهم، وبابتسامة فاطمة التي كانوا يشيحون عنها بتكبر وغرور شيطاني صغير، تبقى فاطمة تنظر إليهم وتتبع أثرهم بناظريها إلى أن يبتلعهم الطريق، فتأخذها الأحلام إلى مكان ليس ببعيد، فترى نفسها تحمل حقيبة وردية على ظهرها، في قدميها حذاء جيد غير مهترئ، تقف أمها تودعها وتقبلها وتدعو لها، ولكنها لم ترَ والدها أبدا في تلك الأحلام، كيف لا وقد تزوج فور وفاة أمها، وأحضر لها زوجة أب قاسية، لم تستطع تحمل هذه الطفلة الصغيرة، وأنها غير قادرة على خدمة أبنائها وخدمة ابنته هذه، فأبعدها عن حضنه وعن بيتها من القرية إلى المدينة؛ لتعمل خادمة عن أصحاب البذلات وربطات العنق.

 

أيقظها من غفوتها صوت سيدتها تصرخ عليها بصوت عال، آمرةً إياها بتنظيف غرف الأطفال ومحذرةً من العبث بأدواتهم أو السطو على شيء من ألعابهم، فكانت تنطلق بنشاط تنظف وترتب وتنظر للكتب والأقلام، فيأخذها الفضول للعبث ببعض الدفاتر ولتمسك القلم محاولة رسم أحد الحروف، تستغرب كيف يمكن أن يكتب هذا القلم الكثير من الأشياء المهمة، وكيف لورقة بيضاء أن تصبح حداً فاصلا يمنح الحياة أو يسلبها، ثم تنظر للألعاب المتنوعة المصفوفة بشكل جميل، فترى السيارات والعرائس، فتمسك بإحداها وتنظر لشكلها بالمرآة مرة وللعرائس مرة أخرى، فتضحك من نفسها ومن ترتيب العرائس، ولكن صوت سيدتها يعود ليزعق مجددا.

 

تسير في الطريق فتبهرها المدينة أكثر وأكثر، أضواؤها وشوارعها، محلاتها الممتلئة بكل شيء، حتى الروائح المنبعثة من النساء والرجال لا تشبه روائح النساء في قريتها

فتذهب للمطبخ لتقوم بتنظيفه، ثم لتعد القهوة لسيدتها، ويبدأ الوقت الصعب -تحضير الغذاء-، الكم الهائل من الشتائم وبعض الضربات المتفرقة تصاحب التعليم، تحزن قليلا ثم تواسي نفسها "لا تعليم إلا بالضرب"!، لربما أبناء سيدتي ينالون الضرب في المدرسة، كل هذا وهي تعمل بجد، تنظر بأمل للحياة، وانتظارا لوقت الفراغ القصير لتأخذ قسطا من الراحة، تنظر للأطفال وهم يلعبون ويتعلمون بشكل حضاري، ثم لتغادر مع الظهر متوجهة إلى دكان سيدها حاملة معها وجبة الغذاء وإبريقا من الشاي، يروقها ويسعدها وضع الطعام فوق رأسها تستذكر أمها حين كانت تعيش معها في القرية، حين كانت ترافقها لتحضرا الطعام لوالدها، يسيران تحت ظلال الأشجار وبين الحقول، ولكن شتان ما بين هذا وذاك، شتان ما بين ظلال القرية ورمالها الناعمة الطينية التي ترسم قالبا لقدميها حين تطأ عليها، وما بين هذه الشمس الحارقة والأرض الصلبة، وبين ذاك الهدوء وهذا الضجيج، شتان بين كل شيء هنا.

تسير في الطريق فتبهرها المدينة أكثر وأكثر، أضواؤها وشوارعها، محلاتها الممتلئة بكل شيء، حتى الروائح المنبعثة من النساء والرجال لا تشبه روائح النساء في قريتها، فالنساء هنا ينتعلن أحذية برأس مسنن من الأسفل كما تصفه فاطمة -ذو كعب عال-، لا تستترن ولا يتوشحن بالحُجب، روائحهن كنساء غُسلن في نهر من الجنة، أيديهن أنعم من بشرة الطفل الصغير، حتى أيدي الرجال ألطف من يد زوجة أبيها المتطلبة والمنعمة بنظرها، ولكن رائحة واحدة تستهويها هنا، وهي رائحة اللحم والشواء المنبعثة من محل سيدها، فهو يملك محلا لبيع اللحوم وطهيها، تقف تنظر بدفءٍ كبير، تستذكر والدها وجلوسه بجانب النار في الأعياد وشوائه اللحم لهم، يناولها سيدها رغيفا محشواً باللحم الشهي، فتأكله بامتنان كبير، فيمسح سيدها على رأسها حنوا وعطفا على هذه اليتيمة الصغيرة.

 

كان سيدها رجلا رحيما عطوفا يرأف لحالها وعمرها الصغير، على غرار سيدتها التي تقسو عليها خوفا من أن تتدلل وتتكاسل في العمل، تعود ركضا قبل غروب الشمس، تحضر العشاء مع سيدتها ثم تمسح أحذية أطفالهم وتعلق ملابسهم بعد كيها، وما إن يأتِ سيدها تقبل يده وتدعو له بطول العمر، وتبقى واقفة مستيقظة حتى يخلد الجميع إلى النوم وتأذن لها سيدتها بالانصراف.

تجلس فاطمة تبكي حظها وموت أمها وغفلة أبيها، ثم تبتسم محاولة التخفيف عن نفسها بأنها أفضل من الأخريات في القرية ممن تتلقين الضرب ليلَ نهار
تجلس فاطمة تبكي حظها وموت أمها وغفلة أبيها، ثم تبتسم محاولة التخفيف عن نفسها بأنها أفضل من الأخريات في القرية ممن تتلقين الضرب ليلَ نهار
 

تذهب لسريرها لتأخذ قسطا من الراحة بعد عناء يوم روتيني طويل، ولكنها الليلة بقية مستيقظة محملقة بالسقف، منتظرة الغد على أحرَّ من الجمر، فغداً هو يوم استلام راتبها الصغير، معلقة آمالاً وراسمةً أحلاماً بشراء ذاك الوشاح المزركش لتلف به جدائلها السوداء الطويلة، أو ذاك الحذاء ذو اللون الورديّ الجميل، مصممة على تنفيذ قرارتها وعدم التنازل عن حقوقها بإعطاء راتبها الصغير لزوجة أبيها التي ستحضر على الموعد بالتمام، لن تدعها تسلب راتب أحلامها.

 

استيقظت الصغيرة فاطمة بعد ليلةٍ مليئة بالآمال والقرارات، لتعد الفطور وتقبل الأيادي ولتستلم راتبها من سيدها الذي دعا لها بالبركة في مالها، ولسيدتها التي حذرتها من الإسراف، فخبأته في جيبها الصغير، وعادت لأعمالها مجدداً، في استراحة الظهيرة جلست فاطمة على درج العمارة تنظر لمالها للمرة العاشرة وتبتسم ببراءة، إلى أن باغتتها تلك اليد الثقيلة القاسية على كتفها، يد عرفتها واعتادت عليها كل شهرٍ في ذات اليوم، يدٌ لا تعرف الرأفة أو الرحمة، لا تعرف قهر اليتيم ودمعه الحارق، يد تسلب أحلامها وآمالها، تمتد لتسلبها حقها الصغير ولتبتطش بها.

 

كانت زوجة أبيها التي سرقت مالها مجدداً بعد أن نهرتها وصرخت بها مذكرةً إياها أنها مسؤولة عن نفسها وأنها ليست صغيرة لترعى شؤونها وتعيل نفسها، وأنها كزوجة أب لها لا تتحمل مسؤوليتها وأنه يكفيها شرفاً أن تكون أماً ثانية لها، ثم تنصرف لتتجول في المدينة وتبتاع ما تقع عليه عينها من مال اليتيمة الصغيرة، فتجلس فاطمة تبكي حظها وموت أمها وغفلة أبيها، ثم تبتسم محاولة التخفيف عن نفسها بأنها أفضل من الأخريات في القرية ممن تتلقين الضرب ليلَ نهار، مواسيةً نفسها بأن لها سيداً رحيماً وسيدةً وإن كانت قاسية قليلاً فهي ليست بقسوة وظلم زوجة أبيها، لا يهم وإن كانت قارورةً صغيرةً متصدعة، تمسح دمعها وتعود لعملها مسرعة على أثر صوت سيدتها الذي يدعوها للدخول إلى المنزل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.