شعار قسم مدونات

تحرير أستونيا.. وكسر قبضة ستالين!

blogs تحرير أستونيا

المقاومة السلمية قد تبدو غير مجدية للكثيرين في عالمنا العربي، تُصف بالبلاهة ويجد البعض الأخر أن المقاومة السلمية مسار ضعيف للثوار يستغرق وقت طويلا للوصول إلى مطالبة ومن السهل حمل السلاح خصوصا باسم الدين وحشد الناس للجهاد والافتخار بعمليات انتحارية يروح ضحاياها الكثير من الأبرياء ويبقى النظام متماسكاً، فقط يستبدل حراسه بآخرين خلال ساعات أو يستغل هذه العمليات – بوصفها إرهابية – ليستخدم في محاربتهم أبشع أساليب القوى وسط صمت دولي عن انتهاكات حقوق الإنسان والتعبير عن الرأي.

أستونيا هي إحدى بلاد أوروبا الشرقية الصغيرة في المساحة وتعداد السكان، رغم ذلك صنعت أنجح الثورات السلمية في التاريخ الحديث، ثارت ضد الاحتلال السوفيتي والاحتلال النازي وانتصرت على كل محاولات أعتى القادة الدكتاتوريين كـستالين، ومن تبعه من سكان الكريملن. أرسل ستالين في مطلع عام 1939 قوات سوفيتيا لأستونيا ما يعادل 12 جنديا لكل مواطن، ثم أرسل ألاف من الروس للعيش في البلد المحتل وبدأ عصر تغيير الثقافة واعتماد اللغة الروسية اللغة الرسمية في البلاد، تليها السيطرة على المناهج الدراسية، الإعلام والحياة الاجتماعية ككل.

 

وفي محاولة لتغيير ثقافة وطباع الشعب الأستوني قام بقتل جماعي للسياسيين بما فيهم رئيس الوزراء وأساتذة الجامعات والرموز الدينية من القساوسة وإرسال أي من معارضيه لمعسكرات العمل (الجولاج). ثلث المعتقلين تم إرسالهم مع أطفالهم لسيبيريا بعضهم مضى 20 سنة محتجزاً وأكثر من نصفهم لم يعد أبداً. غرقت البلاد في مستنقع من القمع والخوف جراء الحكم الشيوعي؛ مما دفع المواطنين للتوجه للعنف فساعد الشعب الأستوني النازيين من خلال فرق مسلحة لطرد السوفيت عام 1941 طمعا بالتزام ألمانيا النازية في استقلال البلاد بعد الحرب، ولكن لم ينفذ هتلر وعوده.

 

لم يجازف أحدا في فترة ستالين بممارسة أي عمل ثوري سوى المشاركة في تلك الأغنية كل عام والاحتفال سرا بأعياد الميلاد والحفاظ على الذاكرة الحية للوطن قبل احتلاله

فاتجه الثوار مرة أخرى بعد ثلاثة سنوات لمساعدة السوفييت طمعا في طرد النازيين بعد وعد جديد بالانسحاب من استونيا وقع عليه دول الحلفاء وستالين بعد انتهاء الحرب ولكن لم يري الشعب الأستوني استقلاله مطلقا بعد أن حارب تارة على الجبة السوفيتية والتارة الأخرى مع ألمانيا النازية. اتجه الشعب الأستوني إلى إنشاء منظمة تدعي (The Forest Brothers) وحشدت 300000 مقاتل في فرق مسلحة سكنت الغابات لمدة 8 سنوات للنضال ضد الاستعمار السوفيتي متمنين أن الغرب سيضغط على ستالين بالوفاء بوعده وترك البلاد ولكن كل محاولتهم باتت بالفشل فأرسل ستالين عام 1952 كل المقاتلين والمتعاونين معهم لمعسكرات الجولاج، أو تنفيذ حملات إعدام جماعي في الشوارع حتى علم الناس أن العنف ليس السبيل الناجح لاستقلال بلادهم.

اعتاد الشعب الأستوني التجمع في يوم من أيام السنة للغناء في مهرجان ضخم منذ عام 1869 وارتداء الزي الرسمي للبلد والرقص الفلكلوري، التقليد الذي لم يتخلوا عنه أبدا ولكن تم السماح لهم بغناء أغنية واحدة من تراثهم بعد غناء النشيد الوطني السوفيتي والتي كانت بالضرورة باللغة الروسية. الأمر الذي تقبله الناس على مضد؛ للحفاظ على الشيء الوحيد الذي يجمع الشعب الأستوني في صوت واحد والصمود أمام محاولات ستالين لتغيير الثقافة ونزع الهوية من الشعب.

لم يجازف أحدا في تلك الفترة بممارسة أي عمل ثوري سوى المشاركة في تلك الأغنية كل عام والاحتفال سرا بأعياد الميلاد والحفاظ على الذاكرة الحية للوطن قبل احتلاله بالحديث المتبادل بين أفراد العائلة في المنازل فقط وخشي الجميع التحدث حتى لأصدقائه عن الوطن بسبب (الكي جي بي) – الشرطة السرية السوفيتية – التي تنتشر في كل أرجاء البلاد. بعد موت ستالين جاءت فترة (de stalinizatio)، وهي فترة كان يعيش فيها الاتحاد السوفيتي شيء من التحرر من أفكار ستالين واعترفوا بجرائمه ضد الإنسانية بشكل رسمي من قبل الحكومة. التحدث عن كل ما هو محرم في عهد ستالين. الأمر الذي استغله الشعب الأستوني في إقامة تجمعات ولو بالبسيطة والمحدودة للحديث عن جرائم ستالين ولكن لم تكن هناك مساحة لانتقاد السوفيت أو الشيوعية كي لا يعطي المجال للحكومة السوفيتية بإيقاف هذه التجمعات.

 

ثم جاء مهرجان الغناء في احتفاله بمرور 100 عام من استمراره فقررت الحكومة السوفيتية منع الناس ارتداء الزي الوطني أو الغناء بأي لغة ما عدا الروسية وعدم السماح لهم بغناء أي شيء من التراث الشعبي، الأمر الذي التف حوله الشعب والتزم بالحضور حتي بلغ العدد ما يقارب النصف مليون شخص وعند انتهاء الغناء باللغة الروسية نزل المايسترو من المسرح وقطعت الحكومة التيار الكهربي عن مكبرات الصوت ولكن بدأ الناس بالغناء دون مايسترو ولا كهرباء غنوا أغانيهم الوطنية حتي أجبر الضباط بالسماح للمايسترو للعودة للمسرح وأعود التيار الكهربي، حينها استمر الناس في الغناء وكرروا نشيدهم لأربع مرات متتالية، الأمر الذي أعطي الجماهير الإحساس الأول بالانتصار حتي ولو كان بالبسيط منذ زمن طويل من القمع. فكانت هذه بداية سلسلة من الاحتجاجات المنظمة ضد السوفيت تنوعت مطالبها. واستمر العمل السلمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.