لم نَعُد نكترث لنشأتنا التُّرابية، ولا لأرواحنا ذات الأصول السماوية، ممن كانت لأسلافنا من قبلنا، حتى ألبستهم لباس التقوى والعزة، وكانت لهم من الوجوه الناضِرَة، أصحاب هيبة وفضيلة، أخلاق تمشي فتسُرَّ قلوب الحاضرين، وأعمال تُرفع لتكون لهم إشراقة وبهجة، حتى أُشرِبت ألوانهم بَضاضَة وبَشاشَة، يشهد لهم القاصي والدَّاني بصدقهم وأمانتهم، وقوة كلمتهم وحُجَّتهم، وتواضعهم واحترامهم، شوامخٌ رقَّقوا الطُّرقات وكأنهم صوامِع ذِكرٍ وعبادة، هم لنا براهين ناصعة، وشواهد ساطعة، ودلائل لامعة.
سألت نفسي كثيراً.. ما هي هذه النزوة التي يقع فيها بعض ضعاف النفوس من الناس، رجل كان أو امرأة؟! فقلت.. لعل ما يقعون به ما هو إلا وهم، يظن به المرء أنه سوف ينال من هذه الحياة الملذات والجمال والمتعة والراحة النفسية، سواء كانت هذه الراحة نفسية يتخللها الشعور بالأمان والاستقرار، أو جسدية يتخللها الشعور بالسلامة الجسدية وإشباع الرغبة الجنسية، أم كليهما معا؟ وهل سيكون ذلك بشكل مستمر أم أبدي أم ماذا؟
لا أدري.. ولكن بعد الاطلاع والبحث والكشف عن بعض الحقائق، وجدت أن هناك من الفروقات العظيمة الرئيسية والمصيرية التي تفرق بين النزوة العابرة والتي تمر مرور الكرام، وبين الحب الحقيقي الذي لا يزول مهما طال الزمان وبعد المكان. في بداية الأمر تكون النزوة مثلها مثل الحب، تُشْعر المُحب بسعادة ليس بعدها سعادة، وبالذات حينما تعيد ذكريات المحبوب، فتلامس بذلك قلبك الشغوف، وتَتَرنَّم على مسامعك همسات الشفتين والصوت الصادر من خفقات القلب ليلامس قلبك الظمآن، فينتقل بذلك إلى ملامسة جسدك من غير أن يلامسه، فما تلبث أن تتحول دنياك الفانية إلى جنة خالدة، لا تريد الخروج منها ولا تريد أن ترى غيرها.
النزوة تزول حين يكون هناك بعد المسافات، واستنكار أمر أو عادة من المحبوب لا يرغبها المحب، فيجد المحب بذلك عذرا للفراق واختلاق الأعذار، ويبرر بُعده بسبب غضبه من المحبوب على ما بدر منه من تصرف لا يليق |
فكيف لنا بعد هذا الشعور أن نتخلى عما نحن غارقين فيه من قبل أن نميز حقيقة ما نحن عليه، هل هي النزوة؟ أم هو الحب بعينه؟ النزوة.. عادة تكون وقتية بسبب شيء من الإعجاب، إن كان بجمال المحبوب، صوته، شخصيته أو حركاته وتصرفاته وما قد يصدر منه في تعامله مع الآخرين. وهذا أمر طبيعي، يتجلى لكل إنسان قد يقع فيه أو يصادف مثل هذه الأمور. أما الحب الحقيقي… ليس له سبب واضح، وهذه حقيقة لا ينكرها إنسان عاقل، فإنك تحب الشخص رغم عيوبه التي يراها غيرك سواك، رغم أن جمال غيره لا يوصف وأنت لا ترى إلا جمال الكون كله أمامك، رغم البعد والمسافات الطوال وما هي إلا أقرب ما تكون من القلب والجسد. تختفي العيوب وتزول الأسباب ولا يبقى سوى محاسن الأمور.
أما الأسباب في محبة المحبوب فلن تجد لها جوابا عند أحد أبداً، ولن تجد سعادة في الدنيا قد تشبعك أو تسد حاجتك أكثر من سعادتك في ذكر المحبوب أو أن تسمع صوته يوما، أو حتى تسمع اسمه يتقلده طفل صغير. والخوف يتخلله البكاء حين تشعر أنك سوف تفقده، أو حتى أن يكون هناك فراق أنت غير حاسِبُه، ولو تم الإشارة له بالهمس، أو بنظرة عين صامتة وصل خبرها من قلب مجروح، أجبره الزمان أن يشعرك بعكس ما لا يشعر هو به، فتكون الكارثة، فتبقى بأنّات حُمَّى لا تجد لها طبيباً ولا طِبَّا، ولا مُسكِّنا لها ولا موتى. وبعد هذا كله… تقول في نفسك! ما سبب الآهات والأنَّات؟! وما سبب مرض القلوب وسقم الأبدان؟! أهذا حب أم عشق قاتل؟! نعم.. هذا هو الحب، ليس له من الأسباب ما يُفهم، وليس له من الحلول للنسيان شيئًا يُذكر.
النزوة.. تزول حين يكون هناك بعد المسافات، واستنكار أمر أو عادة من المحبوب لا يرغبها المحب، فيجد المحب بذلك عذرا للفراق واختلاق الأعذار، ويبرر بُعده بسبب غضبه من المحبوب على ما بدر منه من تصرف لا يليق. أما الحب الحقيقي.. ليس في قاموسه حساب المسافات، ولا الفراق من أجل عادات سيئة أو طباع قد تصدر من محبوبه، بل بعد المسافات يزيد من المحبوب شوقا، ومن القلب قرباً، ومن الجسد حياة، ومن الروح تمسكاً، ومن العادات والطباع السيئة شفقة ورأفة، يتخيلها المُحب في محبوبه من العلة والمرض ما يلزم الوقوف معه حتى شفاؤه ويبرأ من سقمه. ولا يزيد ذلك المُحِب للمحبوب إلا وحشة وضراوة وفي الحب حلاوة.
النزوة.. هي عبارة عن إضاعة للوقت، وملء فراغ الوحدة، وهي قصيرة في الوقت وصغيرة في العواطف، ما تلبث أن تمل وتكل من الكلام مع الطرف الآخر، فلا تجد بُداً بعد ذلك إلا أن تبرر التوقف عن الكلام، بحجج واهية وأسباب تافهة، لتوقف بشاعة التواصل النَّزَوي، فتفضل بذلك السكون مع النفس والتسلية مع من حولك من الجمادات أو حتى الحيوانات. أما الحب الحقيقي.. يجعل من الكلمة جملة، ومن الجملة مقالة، ومن المقالة كتاب، والكتاب له أجزاء لا تنتهي، فلا يرى المُحب في التواصل مع محبوبه الساعة ما هي إلا ثوان، ولا يجد لعامل الوقت قيمة، فهو في تبادل الأحاسيس والمشاعر يعيش في سعادة ووئام وأمان واستقرار فلا يكل ولا يمل، ولو أعاد في الكلام المرات الكثيرة وأخذ من الأوقات الكثيرة.
وبعد أن تنتهي المرحلة الأولى وذلك بالتوقف عن الكلام، تبدأ المرحلة الثانية بإعادة وتكرار الكلام في النفس، وكل صورة تم إرسالها ولمست القلب، وكل همسة لامست بها المشاعر والأحاسيس. وفي نهاية المطاف.. يبدأ المُحب بالاشتياق لمحبوبه من قبل الانتهاء من تصفح تسلسل الأحداث التي ما لبثت أن تنتهي منذ لحظات قصيرة.. فيبقى القلب يقظان، والعقل يفكر ويتخيل، والعين ترى عين الواقع وتتأمل، والنفس تسأل، والروح تتمنى، لعل المحبوب يأتي ويبقى في أحلامه حتى يبقى يعيش في سعادة وهناء أثناء اليقظة وفي المنام.
ولذلك… ترى الحب باقٍ رغم السنين الطوال، والفرقة والبعد والفراق، بُعدٌ لا يؤثر على العقل، ولا يصله القلب، ولا يضعف الأحاسيس والمشاعر.. بل يزيدها ترابطا ومتانةً وقوة. فليحذر كل من يقع في النزوة المرضية، فما هي إلا مضيعة وقتية، وخسارة للعمر والنفسية، فتكسب بذلك خسارة الدنيا والدين، ولا يزيدك ذلك إلا بعدا عن الله العزيز الحكيم. وعليك حساب ما قد يصادفك من خسران، وضياع للنفس والعائلة والغفران، فلك معالجة ما عندك من حياة وزوجة، خير لك من مواجهة الغيب والوقوع في شِراك الوهمية. ومن وقع في حب محبوبه.. فليتمسك به مسكاً قوياً، فهو من النقاء والصفاء قريب، ومع نفسه ومحبوبه بالثقة والصدق جدير، ومن الله دعائي له بالإعانة والصبر على مبتلاه لعله من الشفاء قريب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.