لا أحد يسيء للمملكة العربية السعودية أكثر من بعض المقربين من حكامها، والذين ورطوا ويورطون قادة السعودية باستشاراتهم وتصريحاتهم التي أوردت السعودية وحكامها المهالك. ومن هؤلاء تركي الدخيل المدير العام لقناة العربية، الذي "هدد" في مقال له بأن القيادة السعودية تدرس ثلاثين إجراء ستتخذها بحق الولايات المتحدة الأمريكية، في حال فرض هذه الأخيرة لعقوبات بحق المملكة ومسؤوليها على خلفية تصفية الصحفي جمال خاشقجي. ومن بين هذه الإجراءات هو التصالح مع طهران، وتحول حركة حماس وحزب الله من عدويين لصديقين، والتقارب مع روسيا لحد استضافة قاعدة عسكرية روسية في "تبوك" السعودية.
ويعرف الدخيل قبل غيره بأن هذه التهديدات مجرد أماني، ومحاولة للاستهلاك الداخلي، وأن النظام السعودي لم يجرأ حتى على الرد على الإهانات المتتالية للرئيس الأمريكي "دونالد ترمب" بحق السعودية وعاهلها، فما بالك بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة التي تنصب من تشاء من حكام السعودية وتعزل من تشاء. فالسعودية دولة نفطية ريعية، فما هي بدولة اقتصادية كبرى كألمانيا أو اليابان، ولا هي بدولة إيديولوجية كإيران أو كوبا، وبالتالي فأي وقف لتصدير النفط السعودي يعني في المحصلة النهائية انهيار كامل للحياة الاقتصادية والاجتماعية بالسعودية، وهو الانهيار الذي ستسقط معه إحدى الركائز التي تقوم عليها علاقة النظام الحاكم بالمواطن السعودي، والتي قوامها المال مقابل الطاعة.
لكن ما فات الدخيل أنه أهان السعودية من حيث أراد رفعتها؛ فالدخيل في مقاله يصور السياسة الخارجية للسعودية بمظهر التابع لسياسات الولايات المتحدة، وأن عدائها لإيران وحزب الله وحماس ليس دفاعا عن مصالح استراتيجية للمملكة، بقدر ما هو تبعية مطلقة للاستراتيجية الأمريكية في هذا الباب وخدمة لمصالح هذه الأخيرة؛ وأن المملكة مستعدة للتحول لتابع للسياسة الروسية والإيرانية في المنطقة، مما يعني القبول بالحوثيين كحكام شرعيين لليمن، وبهيمنة حزب الله على لبنان، وبالاحتلال الإيراني والروسي لسوريا، وبإمكانية تغيير النظام البحريني المهدد من شيعة البلد، وحتى إعادة العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين، ولما لا اعتبار ما حدث في الثالث من يوليوز 2013 في مصر انقلابا عسكريا، والمطالبة بعودة الرئيس المنتخب محمد مرسي.
ينبغي إعادة النظر في السياسة المتهورة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان بتأثير إماراتي، وهي السياسة التي جعلت من خصوم المملكة أكثر من حلفاءها |
وفي نظرنا فإن ما تحتاجه السعودية ليس التهديد بالانتقال من معسكر إلى آخر، فالحل ليس في طهران أو واشنطن، بل في الرياض ونجران، وهو ما يقتضي إعادة النظر في السياسات السعودية المتبعة داخليا وخارجيا. وأول هذه الخطوات على المستوى المحلي هو محاسبة المتهمين الحقيقيين بتصفية جمال خاشقجي مهما كانت مسؤولياتهم، عوض ترك الملف يتحول لأكبر فضيحة في تاريخ النظام السعودي، ولملف تستغله الدول الكبرى لابتزاز السعودية ماليا وسياسيا. ثم لا بد من العمل على إجراء مصالحة وطنية حقيقية، تبدأ بالإفراج عن معتقلي الرأي، وتنتهي بعقد اجتماعي حقيقي بين الملكية والشعب، يضبط العلاقة بين السلطات، ويؤسس لملكية دستورية في المملكة.
أما على المستوى الخارجي، فينبغي إعادة النظر في السياسة المتهورة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان بتأثير إماراتي، وهي السياسة التي جعلت من خصوم المملكة أكثر من حلفاءها، وذلك باعتماد سياسة خارجية مستقلة، هدفها خدمة الأجندات الحقيقية للمملكة، عوض ترك المملكة بنكا ماليا لخدمة أجندات خارجية لا تتفق والمصالح الاستراتيجية للمملكة. وهنا لا بد من وقف الحرب الخسارة في اليمن، والمصالحة مع قطر، وإقامة علاقات ندية مع إيران، ووقف مسلسل التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ويمكن للمملكة التواضع والتعلم من التجربتين التركية والقطرية في تدبير علاقاتهما الخارجية، فتركيا بالرغم من تناقضها الجوهري مع إيران وروسيا في الملف السوري، إلا أنها لم تقطع علاقتها معهما، بل إن علاقتها الاقتصادية مع البلدين متطورة جدا، وفي نفس الوقت تحافظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. وقبل كل هذا لابد للقيادة السعودية من البحث عن مستشارين أكفاء يقدمون الحقيقة والاستشارة الأمينة، والتخلي عن المستشارين الحاليين، والذين تبين أنهم يقودون البلاد من كارثة إلى أخرى أعظم منها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.