مرت بجواري امرأة في الثلاثينيات تتزين بقلادة، وقلادتها تتزين بصليب. لم يعد الطريق الذي يلُفني فارغاً، توقفتُ بلقائها عن مراقبة حذائي وخطواتي، وعن رمي ظلالي على الإسفلت. اقتربَت تسألني بلغة غريبة عن مكان ما. أدركتُ بعدها أنها كانت تسأل بالبرتغالية عن متحف الكنيس اليهودي ابن شوشان أو كنيسة سانتا ماريا لا بلانكا كما تُعرف حالياً في طليطلة بإسبانيا. كانت تتحدث بالبرتغالية وكلمتها أنا بالإسبانية، والغريب أننا فهمنا بعضنا البعض. ملأ تعبيرنا الجسدي فراغات التواصل اللفظي الواسعة متجاوزاً اختلاف اللغتين. سألتني هي المسيحية أنا المسلمة عن كنيس يهودي، يال الوصال الثلاثي الذي يُرجى وصاله!
لِمَ التناحر؟ سؤال ينشر صحراء قاحلة برأس صديقي المسيحي، يُسقِط قطرات مِدادي على ثوب صديقي المسلم، ويُنشد قلقا أحمر بقلب صديقي اليهودي من الصدغ للصدغ. هَوَت طُليطلة في القرن الحادي عشر، هَوَت عن الأندلس في بَين وهوى ناسُها عن الحكم الإسلامي بلا أين. هويتُ إليها ارتقاءً بأمان، لا شيء يشغلني إلاها، وهي تشغلني عني، عن نفسي، عن حاضري، عن زماني بالزمان وعن مكاني بالمكان. كل محاولات الالتحام التحمت بحس يُحِس ولا يكتفي ولا يعود منها إلى نفسي، فكانت للروح روحاً وأُنسِ. اندفع نهر تاجة بطليطلة إسبانيا نحوي، حملني مع رفاق الخيال الثلاث على ضفاف رقراقة عصية التلاقي ما بين مودة وتناطح وفراق.
عُيِنت طليطلة كموقع تراث ثقافي عالمي من قبل اليونسكو سنة 1986 باعتبار خاصيتها المنفتحة على الثقافات المختلفة ومكانتها التاريخية كواحدة من العواصم السابقة لإسبانيا إلى غاية سنة 1560. |
لا خيول تمتص الذباب عن العيون، تربع الخذلان عرش المقام، أين السبيل؟ لقد ضللنا السبيل ونسيم السماحة تبعثه السنابل إلى لا أحد. تدفقت مقلة نهر تاجة وانصبت بمدارها نحوي، نزعت عن فضولي أغطيتي. أيقظت جنسية الخلاف الانساني المُرّ مذ قُتِلَ هابيل إلى أن تسامحت الثقافات الثلاث بالمدينة وتناحرت. تربعت طليطلة على قمة تلة، أطلقت شعرها المسفوح بالمعالم على ضفاف نهر تاجة. وأخذت تصرخ في وجه السياح "هيت لك". احتضنت آثارا مفكوكة الأزرار وأخذت تسير بها كقطار وجع على القمة جنباً إلى جنب، فتسمَّت بذلك "المدينة المتحف". لا زالت أزقتها تحتفظ برموز تاريخية للثقافات الثلاث اليهودية، المسيحية والإسلامية التي تعايشت بها لفترة طويلة فأُطلق عليها لقب: "المدينة المتعددة الثقافات"، كما عُرفت في فترة الحكم الاسلامي باسم "مدينة التسامح".
عُيِنت طليطلة كموقع تراث ثقافي عالمي من قبل اليونسكو سنة 1986 باعتبار خاصيتها المنفتحة على الثقافات المختلفة ومكانتها التاريخية كواحدة من العواصم السابقة لإسبانيا إلى غاية سنة 1560. دخلتُ الكون يوم دخولي طليطلة، دخلتُ كوناً جديداً لم أكن يوماً فيه. عالم الأمس مات فيّ وحييتُ بموته كثيراً، وها أنا قد أصبح لقلبي عيون كثيرة ترسم البشر على اختلافهم أُمّاً لا غُمة. هنا ساحة "سوكو دوبير" أو سوق الدواب كما سُميت في الحقبة الأندلسية. تعتبر المركز العصبي للحياة الاجتماعية لطليطلة منذ العصور الوسطى. اشتهرت الساحة أيضاً بعمليات الإعدام العلنية التي كانت تنظمها محاكم التفتيش بعين المكان. هنا الجسر الروماني الذي لا زال يحتفظ باسمه العربي "ألكانترا" نسبة لـ "القنطرة".
هنا حصن ألكاثار أو "القصر" كما سُمي في فترة الحكم الإسلامي، يقع في أعلى جزء من مدينة طليطلة. وضعه المتميز جعله مكاناً ذا قيمة عسكرية استراتيجية كبيرة، شُيد من طرف الرومان. قام كل من عبد الرحمن الثاني في عام 836 وعبد الرحمن الثالث عام 932 بتجديده وتوسيعه. كما عرف المبنى سلسلة من التغييرات المعمارية الهامة بعد نهاية الحكم الإسلامي التي استمرت إلى أن اكتسى شكله الحالي. عُيِنَ كمتحف حربي سنة 2010 ويستطيع زائره تأمل بعض رصاصات الحرب الأهلية الإسبانية التي تركت آثاراً على جدران المبنى. هنا مدرسة طُليطلة للمُترجمين التي ارتبط اسمها تاريخيًا بمُختلف عمليات الترجمة التي حولت طليطلة إلى المدينة النواة التي نشرت الثقافة العربية واللاتينية والإغريقية إلى مختلف أرجاء إسبانيا وأوروبا.
هنا كاتدرائية طليطلة أو كاتدرائية القديسة مريم التي شُيدت على أنقاض مسجد أندلسي. هنا مسجد باب المردوم الذي يمسح دمع سحابة قادمة من صخرة القدس. المسجد عبارة عن بناء مربع الشكل تم توسيع مساحته الصغيرة بعد أن حُول إلى كنيسة. يضم أعمدة وتيجان وأقبية أو هياكل معمارية عميقة من الداخل. ومن الناحية الإنشائية، ينقل التصميم الموحد الأحمال من هيكل السقف إلى الجدران عن طريق أعمدة، بُني المسجد سنة 999 ميلادية. حُول إلى كنيسة تُسمى نور المسيح سنة 1085م ثم إلى متحف يحمل اسم "مسجد نور المسيح".
تقول الأسطورة أن هذه التسمية تعود إلى يوم دخول ألفونسو السادس إلى طليطلة، عَلق حصانه حسب الرواية الشعبية في قطعة بلاط، وأمام هذه العرقلة في السير اهتدى لضرورة دخول المسجد وما أن دخل حتى تراءى له نوراً مشعاً يتسلل من أحد الجدران. قام بالحفر، فوجد رسماً يُصور المسيح إلى جانب مصباح منير لم ينطفئ نوره منذ أكثر من ثلاثمائة عام. بمعنى أن النصارى قاموا بإخفاء هذه العناصر داخل الجدار لمنع أن يتم تدنيسها من طرف المسلمين. المؤكد أن هذه القصة ليست سوى أسطورة شعبية تم نشرها للترويج لما سُمي "بحروب الاسترداد" لدى الساكنة المسيحية.
وإن اختلفت اللغات والثقافات والأعراف والتقاليد والديانات، تبقى المشاعر الإنسانية واحدة. قد يصعُب على غير المتحدثين باللغة العربية فهم معنى كلمات عربية غير مصحوبة بالترجمة مثل: "حب، حنان، معاناة، حزن.." لكن الجميع يتعاطف مع نظرة حزينة، يرِقُ للمسة حب، يتحرك للفتة حنان، يهتز لمشهد معاناة.. قد تختلف المعتقدات الدينية، ولكن قد يهتز قلب مسلم عند سماع ترانيم كنسية رقيقة، قد تتحرك روح مسيحي عند سماع صوت الأذان فجراً حين يختلط أذان المسجد بأذان المسجد المجاور وأذان المسجد الذي بعده في سكون الليل، فيخلق مزيجاً سمعياً رائق في عالم من السكون، وفي حضرة عشوائية التردد المختلط المتفاوت لا يضيع الجمال بل يزداد بهاءً، جمال سمعي طبيعي لا يحتاج لتنسيق بين هذا المؤذن وذاك.
وكما يقول بروفيسور الرياضيات الأمريكي المسلم جيفري لانج "صلاة الفجر بالنسبة لي هي إحدى أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة، هناك شيء خفي في النهوض ليلاً – بينما الجميع نائم – لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل، تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر". لا يمكن اعتبار إسبانيا عدواً للأندلس ولا الأندلس عدواً لإسبانيا، بل الأحرى اعتبارهما عنصرين لحضارة واحدة. ليست هناك حضارة انتقائية، ليست هناك حضارة غربية مقابل حضارة إسلامية وإنما هناك حضارة انسانية شاركت فيها مجموعة من الأعراق والثقافات. "الحضارة الاسلامية" وليدة حضارات مختلفة و"الحضارة الغربية" وليدة حضارات مختلفة وبالتالي فإن أي نظرة عدائية باعتبار هذه "الحضارة" غلبت تلك أو هذه "الحضارة" تفوقت على تلك لا بد أن تكون وليدة نظرة قاصرة.
وحده حزب الإنسان قادر على تجاوز هذه النظرة العدائية للغير والتي تعود إلى نشر مخدرات دينية تفريقية لرعاية مصالح سياسية بحتة. لا يمكن تبني مشروع حضاري إنساني ثقافي متكامل طالما نُكدس شحوماً على مفاصلنا باسم الدفاع عن الايديولوجيا الخاصة. طالما هناك مسيحي أو يهودي أو مسلم، يتبنى أيديولوجية لا تعترف بالآخر وتعتبره عدواً. طالما هناك من يضع قبعة إسمنت أيديولوجي على رأسه تعيق تدفق الدورة الدموية الحضارية المتعددة الثقافات إلى رأسه. يقول عبد الله العروي: "إن إنكار الثقافة الغربية لا يشكل في حد ذاته ثقافة، والرقص المسعور حول الذات المفقودة لن يجعلها تنبث من رمادها".
ويقول جلال الدين الرومي: "قبولُك لي كإنسَـان أهمُّ عند الله من سؤالِـك عن إيماني فنحنُ غصُون من شجرةٍ واحدة، تحنُّ إلى أصلها! مر الإمام علي عليه السلام ذات يوم مع أحد أصحابه على كنيسة قال صاحبه وهو يشير إلى الكنيسة: "طالما أُشرك بالله هاهنا"، فغضب عليه الإمام قائلاً: "لا تقل ذلك، بل قل طالما عُبد الله ها هنا". يقول إليف شفق: "من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل (نقائصهم وعيوبهم). وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً". وأخيرا، يقول ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ..فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ.. وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ..ركائبه، فالحب ديني وإيماني
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.