كتب لي القدر أن أجرب من محنة السجن والاعتقال ما تيسر، إذ لازلت أتذكر تلك الأيام جيداً، وذاك الجزء من عمري الذي أنفقته بين الجدران. ففي السجن، لا أحد يصفق لك باسم التضحية والبذل، ولا صديق يرفع في وجهك شارة النصر مبتسماً ومقدراً لنضالاتك. تخال نفسك وأنت حبيس الجدران الأربعة والسقف، سلعة صينية الصنع، انتهت مدة صلاحيتها بسجنها، وكسدت بفعل التشكيك في جودتها، ببث تقرير على التلفاز يحذر المواطن من خطورة استعمالها. تتذوق حروف كلمة النضال بلسانك ثم تطلق تنهيده، وتقول: "النضال.. هذه ضريبة النضال.."، ربما ناسياً أو متناسياً أن مناضلي الأمس القريب والمارين من الزنزانة التي تقعد ببطنها الآن كقعود يونس عليه السلام ببطن الحوت، ما عادوا يؤدون ضرائب ممتلكاتهم ومشاريعهم، التي كبرت فجأة بعدما باعوا ضمائرهم للمال والكرسي المريح.
ألا تدري أن الذين عاشوا يستنشقون هواء الوطنية والمبادئ، مترنمين بأهازيج النضال، قد أدوا ضرائبهم دماً ساخناً أُريق في ليلة قمرية باردة؟ ألا تدري أن اللسان الذي لا يمدح ولا يغني للمال والسلطة، هو لسان خائن.. متخابر.. متواطئ مع الضمير ضد الاستبداد والفساد؟ ألا تدري أن أولئك الذين سطرت من أجلهم مقالات باكية دمعت فيها عين قلمك لمعاناتهم، كانوا أول المتبرئين من حروفك، والشاتمين لأناملك التي أصبحت حسب رأيهم تبتغي الشر والفتنة وتزور حياة البذخ التي يعيشونها لكي تخدم أجندة الأعداء وتشفي في الوطن غليل الخصوم. وحتى أقرب الناس إليك لما رمي بك في الظلام، أصابهم مسخ فتحولوا إلى سلاحف تخبئ رؤوسها مع الأطراف في مستنقع الجبن الراكدة مياهه منذ عقود. أنت متورط في إشعال نار الثورة على الظلم، وقتل الاستبداد مع سبق الاصرار والترصد، أنت مجرم، أنت سارق، سرقت هناء المقيمين هناك في أعلى الهرم الطبقي، لقد سرقت ليلهم وسمرهم الملائم لعقد الصفقات بينما الناس نيام لا يعرفون سوى ما يتلو عليهم النهار من زيادات في الأسعار، ومن مواعيد لمسابقات غناء حدد الفائزون فيها سلفاً.
أثناء الاعتقال وبعده، توصلت لقناعة مهمة مفادها أنه مهما أصابنا الجبن والخوف، سنجد أن هناك مقاومة ما بداخلنا، هناك شيء ما يدفعنا للحفاظ على رباطة جأشنا |
لكن مصادفة جميلة أن يقودك الحب للزنزانة كما فعل بـ"شاروخان" في فلمه الهندي الشهير "فيرزارا"، لكن رغم ذلك فشاروخان لا يشبهك، لأن جريمته هو تكمن في كونه قد أحب فتاة، أما أنت فقد عشقت وطناً بأكمله. وطن بنسائه اللواتي لا تعرفن أياً من الشعارات التي ترفعها الجمعيات النسائية، ولا تعرفن لصالونات الحلاقة والتجميل طريقاً، وتعشن يوم الثامن من مارس كما تعشن بقية أيام السنة. تلك اللائي يتم استغلالهن واستغلال ضعفهن من طرف أرباب عملهن الذين لا يأبهون لقانون شغل، ولا يبالون بشيء اسمه حقوق الإنسان، ولا أي شيء، فهم يملكون رؤوس أموال كبيرة، والمال هو سلاحهم الفتاك الذي يرعبون به الحكومة، خاصة إن هم هددوها بإعلان إفلاسهم وإغلاق شركاتهم وتسريح آلاف العاملات، وبالتالي تشريد آلاف الأسر.
وطن بأطفاله الذين يتابعون دراستهم للحياة على الأرصفة، وبين المقاهي، وفي ورشات (الصنايعية)، إنهم صغار يملؤون الشوارع والبنايات المهجورة. تجدهم يفترشون الأرض ويتدثرون بالبرد من البرد، دون أن يجدوا أمامهم يداً ممدودة تنقذهم من جحيم الشارع ولعنة التشرد. هم أطفال قدر لهم أن يشيخوا مبكراً، وأن يتحدثوا بلغة الكبار، ويدخنوا السجائر بطريقة الكبار. تجدهم يمسحون بأطرافهم البريئة حذاء مسؤول، والأصل هو أن يمسح هذا الأخير دموعهم التي جفت وما عادت تسيل. وطن بعجائزه وشيوخه من الجنود القدامى، الذين أفنوا أعمارهم في الفيافي، وفي مواجهة فوهات المدافع دفاعاً عن الوطن وعن سارقي خيرات الوطن ولكن دون أن يقصدوا ذلك، وبدل أن يعلقوا أوسمة البطولة والاعتراف، علقوا المصل وأنابيب تصفية الدم، بعدما عادوا من الحدود محملين بالأمراض المزمنة الشاهدة الوحيدة على تضحياتهم.
هم أبطال وجدوا أنفسهم في خريف العمر أمام أبواب المساجد والأسواق الممتازة وفي المقاهي التي يرتادها العشاق، يمدون أيديهم -مرغمين – طلباً لدريهمات تمكنهم من شراء خبزة وحبة (أسبرين) علها تخفف عنهم وجع الرأس المحملة بالهم والأسى. حين يسألني أحدهم الآن: كيف كنت تقضي وقتك في السجن؟ أجيب: "في التأمل والتفكير في اللاشيء وفي كل شيء". كنت أفكر في أشياء خيالية وأشياء واقعية ومصيرية، كنت أتذكر أيام الطفولة والدراسة والنضال وغيره. لكن، دائماً ما كنت أجد أنني لست الشخص الذي يمكنني ويمكنهم هزيمته، فبعد عديد الضربات والطعنات، لم يحصل أي شيء يذكر، ماعدا بعض الخدوش الطفيفة وزيادة في بعض الوزن مرة، وفقده في مرحلة أخرى، وربما كذلك خسارة بسيطة على الصعيد العلمي والدراسة، إذ تأخرت سنة أخرى، ولا شيء غير ذلك.
أثناء الاعتقال وبعده، توصلت لقناعة مهمة مفادها أنه مهما أصابنا الجبن والخوف، سنجد أن هناك مقاومة ما بداخلنا، هناك شيء ما يدفعنا للحفاظ على رباطة جأشنا، أكاد أقسم أن هناك شيء يشبه الشعلة التي نتخيلها في أشد لحظات الظلمة كانت تجعلني مبتسماً، وصوت ما بداخلي كان يقول إن هزيمة هذا الشاب المتعب ليس أمراً وارداً على الإطلاق. فحتى وإن كسرت بعض الضربات ظهره، سيحمل عموده الفقري ليدافع به، ليقاوم به عما يؤمن به، خاصة وأن عدم الوصول إلى النهاية يعني أمراً واحداً فقط، وهو أن هناك فصولاً جديدة تنتظرنا من حبكة القدر لنعيشها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.