شعار قسم مدونات

لا تلتفتْ!.. بعض الماضي لا ينفع معه إلا النسيان

BLOGS تأمل

إنّ حقيقة السّير هو السّير القلبيُّ، ذلك السّير الذي يحتاج إلى قلبٍ فارغٍ من الملهيات والصّارفات التي تلهيه وتصرفه عن محبوبه ومقصوده الذي هو الله تعالى. إنّ ملتفتٌ لا يصل، ما دام القلب منشغلاً بالأغيار التي تحجبه عن ربّه، وطالما أن التعلقات الشهوانية والدنيوية قد تمكّنت منه، وطالما أن أهواءه هي المسيطرة، فلن ينعم بتجليّات الحق سبحانه وفيوضاته، ولو صدق في حبّه لربّه حقًّا ما التفت لغيره، وفي هذا السياق أذكُر إحدى اللطائفِ عن رجلٍ رأى امرأةً جميلةً فقال: لقد سرق حبّك قلبي فأنت أجمل من رأت عيني، فقالت له: إن أختي ورائي هي أجمل منّي وأحسن منّي، فنظر الرجل فلم يجد أحدًا، فقالت: لو صدقتَ ما التفت!

 

وكذلك العبد الحائرُ، لو صدق مع الله ما التفت إلى غيره، ولوقف ببابه وبكى من خشيته وتضرّع إليه، وعلم أنّه يراهُ فاستحى أن يراهُ على معصيةٍ. لو صدقَ فِعلاً، ما التفت إلى الشّهوات وإلى الذنوب والسيّئات. فالمعنى الجامع الذي تجده عن الالتفات، هو المنع عنه خشية أن ينشغل المرءُ عن إدراك ما كُلّف به. ولعلّ من أكثر المعاني دلالةً وتبسيطًا ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم-من النهي عن الالتفات في الصلاة، فعن عائشة -رضي الله عنها-أنها قالت: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". وأنت في حضرته سبحانه، واقفٌ بين يديه، يأتيك اختلاسٌ يُلهيك عن الانشغال به، فيُذهبُ عنك الخشوع، فأنّى يُدركك الفلاح، وكيف تُقبل الصّلاة!

 

والصّلاة وقفة، والدّنيا أمامها وقفات وامتحانات وابتلاءات، فكثيرُون هم من تُلهيهم أحداثُ أيّامهم عن هدفهم، يتيهون في خِضم الحياة عن سبيلهم الذي يجب أن يسيروا فيه ويستقيموا عليه، فيغيب الطريق عن بعضهم، وتغيب الوسائل الصّالحة لقطعه عن آخرين، وقد يبتدئ بعضهم في السير ثم ينشغل عن مقصده السّاعي إليه ومراده السائر نحوه، فنرى الانحراف بعد الاستقامة، والتساقط بعد الجد والوثب، وأصل البلاء التفاتُ القلب عن القصد، ويتبعه التفات البدن ولابد.

 

الالتفات إلى الوراء، الحنين إلى ما مضى، الاكتراثُ بالمعارك الجانبية، إعطاء الأشياء أكبر من قيمتها، التفكير في رأي فلانٍ وفُلانة عنك، وفي كلّ ما قد يقال في ظهرك، كلّها تعرقل خطاك، تؤثر في سرعة سيرك

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". ما أروعه من تصوير وما أوضحه من بيان، خطٌّ مستقيم لمن يريد النجاة وخطوطٌ من طريق النجاة لا من غيره معوجة لمن يلفت يمنة ويسرة، يدعو على أبوابها شياطين الإنس والجن بالشهوات والشبهات، يسترقون كل من التفت إليها أو وقف عندها. أما رأيت الغزال أشدُّ سعيًا من الأسد ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، لأن الملتفت لا بدّ له من فترة نكوصٍ فيدركه الأسد فيأخذه.

 

إنّ الالتفات إلى الوراء، الحنين إلى ما مضى، الاكتراثُ بالمعارك الجانبية، إعطاء الأشياء أكبر من قيمتها، التفكير في رأي فلانٍ وفُلانة عنك، وفي كلّ ما قد يقال في ظهرك، كلّها تعرقل خطاك، تؤثر في سرعة سيرك، تستنزف قلبك وعقلك وروحك. وتستهلك جهدك وعمرك!  لكن إن أنت حددت هدفك، وحررت طريقك، وتيقّنت من أمرك فامض ولا تلتفت، ولاسيما إن كانت عاقبة الالتفات وبيلة قد تقطعك عن بغيتك وتحرمك مرادك وتقعدك عن أداء التكليف أو تعيقك. وأنظر إلى النّور مثلاً، تسليطه يكون دائمًا في الاتّجاه المفيد والذي فيه أمل بإحراز الأهداف، "نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم". لذلك فليكُن نورك وجهدك وعقلك فيما يأتي من الأيام، في انطلاقتك إلى الأمام، ولا تلتفت كثيرًا إلى ظلمة الذاكرة، ربما تقع! دع ما حصل خلفك، وانطلق.

 

قال تعالى: "وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ"، وفي هذا تقول إحدى المرابطات: "عِندما تتَحدّدُ الغايَة وتُستَلم الراية يَحرُمُ الالتِفات، هذا هو الطريق، فالأيادِي المُرتَجِفة لا تحمِلُ الرسائل والأعناقُ المتلفتة لا تتَقلّد المَهَام، والإقدام شَرطُ الاستخدام، ثمّ إنّ الآثارُ العميقَة تترُكُها الأقدامُ الراسِخَة"، لا تلتفت لأنك في المقدمة، لأن أمامك أهداف عظمى لا يسعها الانتظار. "وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُون"، فهذا هو الطريق فالزمه، وانظر أمامك ولا تلتفت لمن يقف على مفترقاته يزخرفون لك المرور من عندهم، فإنّما هم في أحسن أحوالهم تحويلات مؤقتة تعرقل وصولك وتبطئ مسيرك فأن استطعت أن تأخذهم معك فافعل، وإلا فلا تذهب معهم، وليكن شعارك "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ".

 

وتأمّل في قوله سُبحانه وتعالى أيضًا: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ"، ‏إذا فارقت شيئاً فغادره بروحك وبصرك وذكرياتك. الالتفات يجدد مواجعك ولا يعيد فائتاً. ولهذا كانت مناسبة الأمر للوط -عليه السلام-وأهله بترك الالتفات ظاهرة في ذلك الموقف فهي دعوة للإمعان في القصد إلى مغادرة القرية، والنجاة بالنفوس أن يصيبها ما أصاب قوم السوء الفاسقين.

 

بعض الماضي لا ينتهي إلا إذا لم نلتفت له، لأنّهُ سيسيطر على الحاضر والمستقبل إذا التفتنا له، بعض الماضي لا يموت، إذا احتفظنا به، ولو كذكرى، بعض الماضي لا ينفع معه إلا النسيان
بعض الماضي لا ينتهي إلا إذا لم نلتفت له، لأنّهُ سيسيطر على الحاضر والمستقبل إذا التفتنا له، بعض الماضي لا يموت، إذا احتفظنا به، ولو كذكرى، بعض الماضي لا ينفع معه إلا النسيان
 

امض ولا تلتفت فملتفت لا يصل، ومن يلتفتْ ينسَ الطريقْ، إنه قطع العلائق وترقب النصر وتعجب من قول الملائكة أو تعقيب ربنا على قولهم (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)، إنها آفة العجلة المنافية للصبر الذي معه النصر، وهي طمأنة لكل مظلوم، بلى والله إن الصبح قريب فحقق الشرط لينجلي الصبح ويتنفس فلا تلتفت وامض حيث أمرت قم وصم والهج بالذكر وعمر الأرض بتوحيدك.

 

إنّ بعض الماضي لا ينتهي إلا إذا لم نلتفت له، لأنّهُ سيسيطر على الحاضر والمستقبل إذا التفتنا له، بعض الماضي لا يموت، إذا احتفظنا به، ولو كذكرى، بعض الماضي لا ينفع معه إلا النسيان، ولا حل معه، إلا أن تهيل عليه التراب. لذا اجعل لك قِبْلَة، واحذر التيه، فساعٍ في هذه الأرض بغير قبلة، دائرٌ في الرّحى، يومه كأمسه وعوده على بدئه، يطحن في الرّحى عمره حبًّا منثورًا. أوكلّما دعاك داعٍ لَبَّيْتَه، وكلما زُيِّن لك شيءٌ تبعته، وكلما لاح لك طريق ولجته، فتتيه وتتيه… فمتى الوصول إذن والزاد قليل والعمر قصير؟ هذا ملتفتٌ لا يصل، فكيف بتائهٍ مبعثر الخطوات لا يدري أين الطريق، فولِّ وجهك شطر القبلة وسارع الخطو ولا تلتفت.

 

"لا تلتفت، ودعِ اللعاعة للنيامْ

قد يزرعون الشوكَ ما بين يديكْ

قد يمكرون وينبحون، فلا عليكْ

هو مِن حداء الدرب يملأ مسمعيكْ

جدَّ المسيرَ إلى مرامي مقلتيكْ

فلك المدى، ومفـاتحُ الدنيا إليكْ

لا تلتفتْ، فمواسمٌ كبرى لديكْ"

– عبد المُعطي الدلالتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.