شعار قسم مدونات

موقف السعودية من مقتل خاشقجي.. خطوات بسيطة لفهم "الهبل السياسي"

blogs القنصل السعودي مع صحفي رويترز

تحمل الرواية الرسمية السعودية؛ المتعلقة بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها في إسطنبول في الثاني من الشهر الحالي، أشياء تبعث على الغثيان و"الهبل" السياسي، حين تلقي الرياض مسؤولية مقتل الخاشقجي على مسؤول متقدم في المخابرات السعودية، لتبرئة مصّدر الأمر بالقتل ولي العهد محمد بن سلمان وبعلمه وتخطيطه المسبق.

التحقيقات الأمنية التركية أثبت كفاءة عالية الدقة، في الحصول على معلومات حاولت قنصلية السعودية طمسها، وكشفت منذ بداية جريمة الاختفاء لغز القضية وأعلنت رسميا "شبهة قتل" وراء اختفاء خاشقجي، في وقت كانت فيه الرياض وإعلامها يؤكد مرة تلو أخرى أن خاشقجي دخل القنصلية وغادرها بروايات متناقضة كان أخرها حديث ولي عهد السعودية في مقابلة متلفزة بأن "المواطن جمال خاشقجي غادر القنصلية" دون إيضاحات أو تأكيدات من الجانب السعودي لا في الرياض ولا في قنصليتها في اسطنبول.

كل القرائن تشير إلى أن قرار التصفية الجسدية صدر بأمر عال من هرم القيادة السعودية، إذ لا يعقل أن يكون قرار التصفية اعتباطيا أو مزاجيا من مسؤول في المخابرات! إزاء هذا تجيء التبريرات السعودية الرسمية عبر إعلامها الرسمي أن خاشقجي قتل في "الخطأ" أثناء استنطاقه واستجوابه في القنصلية، وأن هدف العملية التي اعترفت فيها رسميا السعودية هو "الاختطاف وليس القتل"، وهذا يعني أيضا اعتراف أخر بجريمة مخطط لها من قبل السعودية، ووفق الموروث العربي الشعبي "هربنا من الدلف لنقع تحت المزراب"، أي اعتراف رسمي الذي يجيء من دولة بأنها تخطط للخطف بأسلوب مخالف لكل النظم القانونية الدولية، وبعيدا كما ظنوا عن "أعين القانون".

السعودية، ووسط هذه الورطة التي توغل فيها قيادات عليا في الرياض؛ سعت منذ إنكارها بمكان وجود خاشقجي إلى محاولات مكشوفة لقلب طاولة المسار في القضية لكنها لم تفلح

في ظل هذا كله، وثقل الجريمة النكراء، والاعتراف السعودي الرسمي؛ حاول البعض بزج اسم دولة قطر في القضية بأسلوب يتنافى مع أبسط قواعد الاحترام للذكاء الشعبي البديهي، في محاولة من الرياض لإقحام الدوحة في أمر خاشقجي، كدلالة على حجم الإفلاس الإعلامي والسياسي الذي تعانيه الرياض الذي لم يسبق له مثيل مذ تحولت نجد والحجاز إلى "سعودية".

تركيا؛ أدارت ملف القضية بأسلوب بارع وتقني ودبلوماسي يؤكد السيادة الذاتية بكل تحركاتها على مدى الأسبوعين الفائتين وهو التاريخ الذي "أخفي" فيه خاشقجي.. ولعب الإعلام التركي أيضا بسيادة وحرية وتمكن من نقل ملف خاشقجي إلى وسائل إعلام عالمية، وسعيه الدؤوب لكشف ملابسات ما حدث لخاشقجي.

السعودية، ووسط هذه الورطة التي توغل فيها قيادات عليا في الرياض؛ سعت منذ إنكارها بمكان وجود خاشقجي إلى محاولات مكشوفة لقلب طاولة المسار في القضية لكنها لم تفلح، وتبحث راهنا بعد إدخال مصطلح "قتلة مارقون" إلى ملف القضية، عن مخرج لموقفها الدولي والعربي والمحلي المحرج الذي وضع الرياض في زاوية ضيقة للغاية بعد أن قدم الادعاء العام التركي أدلة القطعية لجريمة قتل وقعت بحق الخاشقجي داخل القنصلية.

الإرباك السعودي في هذا الملف بدا واضحا منذ يومه الأول، سواء في الرياض أو في القنصلية إذ فضحت تعابير وجه وحركات القنصل محمد العتيبي تفاصيل ما جرى، ولم يشفع له تصّنع القنصل في مشيته أو تظاهره بأن الأمر طبيعي وهو يفتح خزائن القنصلية برفقة مراسل رويترز. "سي إن إن"؛ تؤكد هذا الإرباك عبر أخبارها وكذلك "الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمز" وتشير بشكل أو بأخر باتهامات موجهة لولي العهد السعودي الذي تحاول الرياض تبرئته عبر بيان تشتغل عليه الرياض وسيخرج إلى العلن في غضون الساعات المقبلة.. كل هذا يؤكد فضائحية الموقف الرسمي السعودي، والجناية التي أقدمت عليها وخططت لها بحق صحفي لا يملك إلا الفكر والقلم ومداد حبر حولوه إلى دم منساب.

الدور الأمريكي لم يكن بالقدر الكاف بهذا الأمر، وكان رخوا بشكل لافت للنظر، فتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، افتقرت إلى موضوعية سياسية، وكانت تصريحات في مجملها تصريحات "مجاملة" ربما لغرض في نفس ترامب، على الرغم من تحرك أخذ منحنى إيجابي من قبل أعضاء في الكونغرس الأمريكي إلى جانب دور الصحافة الأمريكية وخصوصا الواشنطن بوست التي كانت منبر لمقالات شهيد الموقف الحر الصحفي جمال خاشقجي.

ولعل "القتل الخطأ" وربما "بنيران كواتم صوت صديقة" أو "بإبرة حملت جرعة زائدة" حولت عملية الخطف المقررة إلى قتل وتقطيع أوصال "بمنشار عظم" كان موجود على سبيل "الصدفة" في مكاتب القنصلية..، أي خطأ وخطيئة ارتكب بحق جمال الذي صرح في لقاءه الأخير عبر قناة "الجزيرة" قائلا: "أي عجز تعيشه وأنت تبحث عن حرية في وطن تحبه". وهو ذاته الذي يغرد قبل أكثر من 5 أعوام تغريدته التي عادت إلى الأضواء: "البعض يرحل.. ليبقى!".. أي هوج سياسي ارتكبته السعودية بحق جمال وأين جثته.. وكم ستكون كلفة قتل خاشقجي السياسية والأخلاقية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.