شعار قسم مدونات

نفسك أولا.. لا الآخرين!

blogs تأمل

نفيقُ في كلِّ صباحٍ مع ذواتنا وأنفسنا، البعض يفيقُ على صوت حلمه، يسمعه يناديه من بعيدٍ ويقول: (استيقظ فحقّي عليك لم يزل قائماً)، وهؤلاء يستيقظون بروحٍ مرحة، وهمّةٍ مشتعلة، عقولهم ترى قبل عيونهم، اجتاحوا حدود عجزهم، وأحلّوا في أراضي الكسل ثكنات الطموح ومواقدَ العزائم، وعزموا على الوصول، غيرَ مكترثين بقليلٍ من بُقَعِ الوحل في طريقهم، يستيقظون على (يا ربُّ أعنّا على استحقاق فضلك، وارزقنا من حلالك الطيّب)، وينامون على (الحمد لله).

لقد امتلكوا قوّةً في قلوبهم تعينهم على إسكات العقل عن الاكتراث باللغو والفضْلات التي لا تُفيد ولا تغني من جهل، لقد أرسوا سُفنَهم في موانئ السلام الداخليّ، والاطمئنان القلبيّ والذهنيّ، بعيداً عن أعاصير الزيفِ والفراغ، تراهم خاشعين في محاريبِ سعيهم للإصلاح والإحسان، يرددون في سرائرهم: (وعزمتُ الإحسان ما دُمْتُ حيّاً)، وفي الظواهر ترى سواعد هذه النيّةِ وهي ترسم على لوحةِ الحياة أجمل تشكيلاتِ الخير، وتعزفُ على أوتار القلوب أعذب نغماتِ السعادة والفرح والبهجة.

في داخلهم سلامٌ يلقونه على كلِّ من يرون، وتصبيحةٌ معطّرةٌ بالمودّةِ يرشقونها على عجوز الحي، وشيخ المسجد وأولاد الجيران، يزرعون سهول قلوبهم ورداً، ويسقونه بآيات الكتاب الحكيم، ويرشّون عليه من عبق حُبِّ الإله، ثم حين ينضج يقدّمونه باقاتٍ لغيرهم. كلُّ ما سلف ذكره من فروع شجرة الإحسان ما هو إلّا وقودُ انطلاقهم لسبرِ أغوار الإبداع، وتحقيق الطموح، وليُشبعوا ظمأ نفوسهم الطيّبة، التي امتلأت بالخير وفاضت وجادت بكل ما هو معروف وطيّب، إنّهم يُعينون أنفسهم على تحقيق رغبتها بأن تضع بصمتها على جبين هذه الدنيا، فحينها تكون النفس قد استقرّت ولبست ثوب السكينةِ والسلام. كما يتخذون أعمالهم الصالحة زاداً للأخرة، يكتبونه في صحائفهم ليوم المقابلة، حين يُسألون ما لديكم من مؤهلات لدخول الجنّة؟ فيمدون بكلِّ ثباتٍ وثقةٍ صحائفهم النيّرة، ويقولون: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ).

هناك من جعل معيار تقييم ذاته هو هراء الآخرين، يظنُّ بأن العالم كلّه اجتمع ليحيك مؤامرةً ضده، وفي خِضمّ هذه الفكرة تحاول نفسه التمرّد على قيوده لتقول له: أوتظن أنّك مركز الأرض؟

ولكن، هناك بعضٌ آخر، يستيقظ على أنين نفسه، يفتح عينيه وهو على فراشه، بشعورٍ باردٍ يقوم لغسل وجهه، يصبُّ الماء على وجهه فلا يغسل إلا وجهه، وضع الحواجز على قلبه وأسرَ نفسه، أو ربما ألقى نفسه في غياهب الجبّ، ألقاها وجلس ينتظر أحد السيّارة يلتقطها، لوحة الحزن لا تنفكُّ أن ترسم على وجهه، وضع عنوان البؤس والتشاؤم على جبهته، ومنهم من يمضي يعزف ألحان بؤسه على أوتار غيره، ومنهم من يُبقي صخب هذه الألحان في جوفه، فتنخر روحه تدريجيّاً.

لا تكاد تراه في شيء، برودته طاغية، ألبسَ قلبه اللباس الأسود، ومضى ينعى نفسه بدل أن يُحييها، حجب عن أذنيه صخب داخله وأصغى لزيف المثبّطين، أوقف عقله عن التفكير في حلِّ مشاكله، وملأه بماذا يقولون عنّي؟ وما رأيهم فيّ؟ ولِمَ لا أحد يعجبه شيءٌ منّي؟ جعل معيار تقييم ذاته هو هراء الآخرين، يظنُّ بأن العالم كلّه اجتمع ليحيك مؤامرةً ضده، في خِضمّ هذه الفكرة تحاول نفسه التمرّد على قيوده لتقول له: أوتظن أنّك مركز الأرض؟ أوليس للعالم شأنٌ غيرُ التفكير فيك؟ فتراهُ يشدُّ وثاقها ويقمع صوتها، لقد أدمن التشاؤم حتى أصبح يرى الحقيقةَ والسعادة أمامه ويتجاوزها بكلِّ سذاجة. يحسبُ كلَّ ضحكةٍ يسمعها سكّينَ سُخريةٍ تُمزّقه، لا يشعرُ بالحياة من حوله، يؤدي بعض وظائفه لأنه تعوّد عليها وكفى، حتى صلاته تكون ببرودةٍ تامّة، لا يشعر بحركاتها وتجليّات النفس فيها، يخرج منها كما دخل، دونما وضوءٍ لروحه أو طُهرٍ لقلبه أو شفاءٍ لنفسه، حتى قد يصل إلى مرحلةٍ يتساءلُ مستنكراً على نفسه: لِمَ يفعلُ هذه الحركات؟

شخصٌ كهذا يحتاج إلى عقدِ اجتماعٍ طارئٍ مع نفسه التي ألقاها في الجبّ سابقاً، عُزلتهُ في هذه اللحظات هي علاجه، لابدَّ له من حجرٍ صحيٍّ على ذاته، ثمَّ في هذا الاجتماع لابدّ من عملٍ شاقٍّ يفعله، يجب أن يبحث عن دوافع إلقاء نفسه في ظلمة البئر، وقد تكون دوافع معنويةً لا يمكن الخلاص منها بتلك السهولةِ المرجوّة، كتعلُّقٍ بشخصٍ ما، أو فقدان شخصٍ عزيز، أو مشكلةٍ بغض النظر عن نوعها (اجتماعية أو اقتصادية أو إلخ) لا تُحلُّ على الفور، في هذه الحالات وجب التصالح معها، وأن تبني قناعاتِكَ على أساسات السعي، وعلى أرض (عملُ الممكن إلى أقصى حدٍّ ممكن)، ثم ترفعَ علم التوكل والتسليم لله على بنائك، كما يجب أن تتعرّف على ذاتك، بأن تعرف من أنت بصفاتك وسماتك، ورغباتك وتحفّظاتك، أن تعلم ماذا تريد من الدنيا ومن فيها، ثم الأهمُّ من ذلك، وهو أن تحترم نفسك وتقدّرها، أن تعطيها مساحتها الخاصة، حتى تكون حرّة وتمتلك حقّها بأن تكون ذاتاً منفردة بكل احتياجاتها، لا تستقي أو تقتات أي مورد لرقيّها من أي أحد، أن تصل إلى حدّ الإشباع النفسي والاكتفاء الذّاتي بموارد حفظ النفس والاستقرار.

وما دام ربُّها الله.. فلا ضرر ولا انكسار، ولا حزن ولا هم، ولا ظَلمةَ ولا بئر. وما دام ربُّك الله.. فلا ذُلَّ ولا هَوان، ولا استصغار أو استحقار، ولا تقزيم للنفس ولا تقييد، إنّما هي حريّةٌ واختيار، وانفرادٌ واحترام، وتقدير وتحسين. "كُن مع الله ولا تبالي".. بعد هذه العبارة، رُفِعت أقلام الفشل، وجفّت صحائفُ الهموم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.