إن تطورات العصر أدت إلى ظهور نمط حياة جديد، بلباس إسلامي، أضحى فيه الدين مجرد موضة، أو ما يمكن أن نسميه "التدين" حيث يرتبط هذا الأخير بعوامل سوسيولوجية وثقافية ونفسية، أكثر من ارتباطه بالدين كمفهوم عقائدي أو أخلاقي، أو كتطبيق للشعائر بغية نيل مرضاة الرب، فالتدين بهذا المفهوم هو سلوك بشري معرّض للاختلاط بالخصائص البشرية كالأفكار والعادات والتربية والثقافة، مما يجعله عرضة للاختلاف حسب تفاعل الدين مع الموجودات الداخلية، ومع خصوصيات كل مجتمع على حدة.
إن هذه الإشكالية تضعنا أمام صورة نمطية للدين، تختلف تماما عما هو عليه في حقيقته، أو عن الهدف الأساسي الذي جاء من أجله باعتباره رسالة سماوية ذات هدف أخلاقي، إصلاحي وتربوي. هذه الصورة النمطية أضحت مرتبطة بشكل أساسي ببعض الأفكار والممارسات التي ساهمت سيكولوجية الفرد، والتركيبة الثقافية للمجتمع في تشكيلها.
مما يحول دون قيام الدين بوظيفته الإصلاحية والتربوية التي جاء من أجلها، ففي دراسة أجراها معهد (غالوب الأمريكي) عن أكثر المناطق تدينا في العالم، وجدت أن العالم العربي من أكثر الشعوب تدينا على وجه الأرض، ولكن في الوقت نفسه، نجد أن شعوب هذه المنطقة تحتل مراكز متقدمة في الفساد والرشوة، والتحرش الجنسي، والغش والنصب والتزوير، لذا لا بد من محاولة لتفسير هذا التناقض، والسؤال: كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينا وفي الوقت نفسه الأكثر انحرافا؟ فأين أثر الصلاة في حياتنا؟ وأين أثر العبادات عموما على العابدين؟!
المسلم الحقيقي هو الذي يلتزم بصلاته ويؤديها في أوقاتها. أما الآن فالصلاة لم تعد سوى ممارسة يؤديها الناس ليظهروا بمظهر الطهارة والعفاف وليتجنبوا لوم واستنكار المجتمع |
قد يبدو مصلح التدين غامضا بعض الشيء، وحتى اإطاء تعريف له قد لا يسعفنا في فهمه، ما لم نعطي أمثلة حية من الواقع، تساعدنا على الإحاطة بمفهومه بشكل جيد. لذلك فإننا سنتطرق للتحولات التي طرأت على مستوى بعض العقائد والعبادات، بحيث انحرف المجتمع عن الهدف الحقيقي والأساسي الذي جاءت من أجله هذه العبادات، للتحول من عقائد وعبادات وشعائر دينية هدفها إصلاح الفرد والمجتمع وضمان الرفاه في الحياة الدنيا والأخرة، إلى ممارسات مرتبطة ببعض الأهداف والمناسبات الشخصية، وهو ما ساهم بشكل كبير في ترسيخ التناقض السابق الذكر.
تعتبر الصلاة عماد الدين، إذ قال فيها الرسول (ص): (إن أول ما يسأل عليه المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد له سائر عمله) فمنذ مجيء الإسلام كانت الصلاة هي أس الأمة الإسلامية، والسمة الأساس للمسلم، فالمسلم الحقيقي هو الذي يلتزم بصلاته ويؤديها في أوقاتها. أما الآن فالصلاة لم تعد سوى ممارسة يؤديها الناس ليظهروا بمظهر الطهارة والعفاف وليتجنبوا لوم واستنكار المجتمع، ويوم الجمعة أضحى يوم التظاهر بجمال الأثواب والعطور، والسيارات الثمينة التي تقف أمام المساجد، وخطبة الجمعة تحولت من درس ديني، إلى إلقاء مواعظ متجاوزة وحث الناس على طاعة الحكام والصبر على الفقر والجوع، حتى أن الصلاة عند البعض أضحت رهينة ببعض المناسبات كشهر رمضان أو الأعياد أو الجنازات.
يعتبر الصوم أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد خصه الله عز وجل بمنزلة خاصة إذ يقول الله عز وجل على لسان رسوله (ص): (كل عمل ابن أدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به) فشهر رمضان هو شهر المغفرة والثواب وشهر العبادات بامتياز. اليوم نجد أن الناس ينتظرون شهر رمضان على أحر من جمر، ويجهزون له أفضل تجهيز، من مأكولات وحلويات وأواني ألبسة وعطور، حتى إن القنوات التلفزيونية والإذاعية أضحت تعتبر شهر رمضان شهر المكاسب والمداخيل بامتياز.
فتحول شهر رمضان من شهر للعبادة إلى شهر للاستمتاع بأشهى المأكولات وأجمل البرامج والمسلسلات، والالتقاء بالأصدقاء في المقاهي والحدائق والمنتزهات، في وقت لا يجد فيه الفقير ما يأكل، وهنا يمكننا أن نطرح سؤالا يحتاج إلى إجابة: ما قيمة الصوم إذا كان يجعل الغني يستمتع بملذات الحياة بدل أن يجعله يشعر بمعاناة الفقراء والمساكين؟
يقول الله تعالى في سورة ال عمران (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) يظهر من خلال الأية مدى أهمية الحج باعتباره هو الأخر أحد أركان الإسلام الخمسة، لكنه ليس مفروضا على جميع المسلمين، بل يبقى مقيدا بالاستطاعة، أي امتلاك الوسائل المادية والمعنوية التي تساعدك على أداء هذه الفريضة. وقد كان للحج منزلة خاصة عند المسلمين حتى أضحى من يذهب إلى الحج بمثابة ولي صالح عند أهله وقومه، فيطلق عليه لقب "الحاج" احتراما وتقديرا له.
ولم يكن في هذا أي إشكال، إذ كان الحاج رجلا متدينا عالما وعارفا بما له وما عليه. أما اليوم فالذهاب إلى الحج يحتاج إلى مصاريف كثيرة، تزداد السنة تلو الأخرى، بحيث لم يعد بإمكان الإنسان الفقير أو المتوسط الذهاب إليه. ففتح المجال للأغنياء للتنعم به، إذ أضحى الحج مشابها لرحلة في هاواي، فتجد أن رجل أعمال أمضى حياته في جمع المال المختلط بالحلال والحرام، وعندما يصل إلى عمر معين، يقرر أخد أهله وذويه إلى الحج بغية طلب المغفرة، بعد أن أمضى حياته في النعيم في حين أن الفقراء في بلده لا يجدون ما يأكلوه، فيذهب إلى الحج ويقيم في اترف وأغلى الفنادق ويأكل أشهى المأكولات، ويعود محترما موقرا بلقب جديد هو "الحاج"، وكما يقال عندنا في المغرب عند ذهاب شخص ما إلى للحج، يقال "لقد ذهب ليغسل عضامه" وكأن الحج هو حمام للاغتسال من ذنوب وخطايا الحياة.
إنّ قراءة القرآن من أفضل القربات عند الله عز وجل، لما فيها من التقرب إليه سبحانه بكلامه الذي أنزله هداية للبشرية إلى سعادة الدنيا والآخرة. ولطالما ارتبطت قراءة القران بالمسلم في كل جوانب حياته، فكان القرآن سمة ملازمة للمسلم في حياته اليومية منذ أن يستيقظ إلى أن يعود إلى النوم، وكل مرحلة من يومه كانت منكهة بنكهة قرانية سعيا وراء مباركة الله. وكان أيضا سمة جل المجالس، سواء في المنازل أو المساجد أو غير ذلك. لكن اليوم القران كباقي الشعائر والعقائد، أصبح رهينا ببعض المناسبات. فلم يعد يتلى إلا في المساجد، أو في الموت أو الزواج أو تزامنا مع بعض المناسبات الدينية أو الاجتماعية.
إن هذه الأمثلة لم تكن على سبيل الحصر، بل المثال فقط وقس على ذلك. أما عن أسباب هذه المشكلة فهي متعددة ومختلفة ولعل أبرزها:
– التخلف والابتعاد عن جوهر الدين وحقيقته.
– العولمة والتأثر بمتغيرات العصر.
– التقليد.
– أخد الدين بمفهومه الظاهر.
– تراجع الخطاب الديني مقابل شعارات الحرية والليبرالية.
– انعدام التوعية.
وبعض المشاكل النفسية من قبيل:
– حب الظهور والتميز.
– عدم الثقة في النفس والبحث عن أمر يجعل الفرد أفضل من غيره.
– البحث عن اهتمام الناس وإثارة إعجابهم.
– الخوف الشديد وفقدان اﻷمان.
وهناك الكثير من اﻷسباب اﻷخرى التي من الممكن أن تجعل الإنسان يختار التدين ليس من أجل الدين، ولكن لأسباب وأمور شخصية أو نفسية. يقول الشيخ محمد الغزالي "التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ" فالدين غير التدين، والدين الحق يريد منا أن نكون متدينين بالمفهوم الشامل للعبادة، والذي يعني إحسان الشعائر والأخلاق والمعاملات لله وحده، فهي كل ما يحبه ويرضاه من اﻷقوال واﻷفعال الظاهرة والباطنة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.