الفزع، كلما استيقظت من النوم أشعر به جاثما فوق صدري، أخذا بتلابيب نفسي، مسيطرا على جوارحي، ما هذه الحوائط القذرة الملطخة؟! ما هذه الرائحة العطنة؟! أين أنا؟! لماذا أنام على هذه الأرض الغارقة في الماء الآسن؟! كل هذة الأسئلة تدور في ذهني بسرعة خارقة إلى أن أدرك أنني لا أزال بنفس مكاني، أنا مسجون! هذا السجن الانفرادي الذي أقبع فيه لشهور لم يجهز إلا لكي يصبح قطعة من جحيم، إلا أنه لم ينجح في تأدية مهمته -إلى الآن على الأقل-، فالذين أدخلوني هنا يريدون أن يصيبوني بالجنون، فهم يظنون أن الوحدة لشهور كفيلة بالقضاء على هذا الذي أتعبهم، على عقلي، وقادرة أيضا على كسر إيماني بعدالة قضيتي، ذلك الإيمان الذي يمدني بشجاعة الوقوف أمام مثل هؤلاء المجرمين.
مساكين، فهم لا يعرفون معنى أن تكون مؤمنا بما تقاتل من أجله، فاهما لما تفعل، مدركا تمام الإدراك لحجم التضحية التي تؤديها بإعلانك عما تؤمن به أمام أنظمة قمعية فاشية لا تعرف قواميسها معنى الرحمة أو الإنسانية، ولا تحاول حتى التظاهر بهما، بل هم أحيانا يجاهروا بتجردهم منها، ويفتخروا بذلك حتى يخيفوا أكبر قدر ممكن ممن ابتلاهم الله بالوقوع تحت سلطتهم، أنظمة تحاول التفتيش والبحث عن الأفكار والخواطر التي تجوس خلال نفوس الناس، فما بالك بمن يعلن عن هذا ويكتبه وينشره بين الناس، في محاولة منه لنشر الفكر المقاوم للظلم الرافض للاستعباد، وهذا يسبب مشكلة جد كبيرة وخطيرة في إدارة الطغاة للشعوب، فالطغاة لا يستطيعوا فرض سيطرتهم وقمعهم على شعوب تشبعت بالحرية، لأن هذه الشعوب تفضل الموت على أن تسلس قيادتها تحت يد طاغية، لذلك فأنا محظوظ أنني سجنت فقط ولم أقطع إربا بمنشار على يد أحد جزاريهم.
حاولوا عزلي عن كل مظاهر الإنسانية، إلا أن أفكاري آنستني، لكن مشكلتي الكبيرة كانت في شعوري بالفزع عند الاستيقاظ، فأنا لم أستطع أبدا الاعتياد على السجن |
هم لا يعلمون شيئا عن الزحام الموجود في عقلي، فتشوني عند الدخول إلى جحيمهم تفتيشا دقيقا، وعندما سألني القائم بالتفتيش بلهجة تهديدية متوعدة عما إذا كنت أخفي شيئا لم يراه هو؟ لم أستطيع أن أكذب وأقول لا، بل صارحته بالحقيقة وقلت له وأنا أشير إلى رأسي: أحمل معي كل أفكاري هنا، نظر إلي الرجل باستغراب شديد، وبدا أنه لم يفهم، ثم هز رأسه وهو يقول: لا أفهم أبدا مسجوني السياسة، ثم دفعني دفعة قوية أسقطتني أرضا.
الصمت يرابط ككلب وفي على بوابة الزنزانة، ينهش أي صوت يقترب منها، ويحول بيني وبين أي ظاهرة صوتية، اللهم إلا صوت الفئران التي شاركتني في الزنزانة، حتى أني أصبحت أميز بينهم، بمجرد النظرة الأولي، أما السجان فهو موهوب، وكأنما دبجت من أجله مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب، صموت إلى أخفت درجة، لا تسمع حتى صوت خطواته وكأنه يسير حافيا باستمرار، ذهبت كل محاولاتي لإجباره على التحدث معي أدراج الرياح، حتى توقع ساعة إحضاره لوجبتي الوحيدة فشلت فيه، فجأة يفتح الفتحة الصغيرة الموجودة في الباب ويلقي رغيف الخبز منها، وهو حريص جدا على قذارة الزنزانة، فكلما شعر أن منسوب المياه القذرة قد قل داخل الزنزانة أغدق عليها بدلو أو اثنين، وكأن الزنزانة هي حيوانه الذي يساعده في القضاء على فريسته، من الواضح أن هذا الرجل مؤمن جدا بما يفعل! أو خائف جدا أن يظن به التعاطف مع مسجون سياسي –مع أنه لم يتبادل معي كلمة واحدة- لذلك فإنه يسرف في التضييق علي.
وبالعودة إلي فإنهم حاولوا عزلي عن كل مظاهر الإنسانية، إلا أن أفكاري آنستني، لكن مشكلتي الكبيرة كانت في شعوري بالفزع عند الاستيقاظ، فأنا لم أستطع أبدا الاعتياد على السجن. كاذب من يقول أن السجن مكان قد يعتاده الإنسان مع مرور الأيام، فكيف تعتاد مكانا لا ينفك عن إظهار عداوته لك طوال مكوثك فيه، كيف تعتاد مكانا يحاول أن يقتل فيك كل شيء جميل، يحاول أن ينسي الناس وجودك، وكلما تكلموا عنك تكلموا عنك كميت سكن قبره، لكن ساكن القبر في أحوال كثيرة يكون أهنأ من نزيل السجن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.