عندما ينتابك شعور بضيق الوقت وكثرة المهام، وتتمنى أن يحوي اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة فأنت تعلم عندها ماذا يعني أن يضيع من يومك بأكمله ما يقارب العشر ساعات في انتظار دورك في المستشفى لكي ترى طبيبك المختص مع طفلة صغيرة لم تتجاوز العامين (مع العلم أنك في مستشفى أهلي "راقي بوصفهم" وليس حكومي) أي أنك تدفع المال والكثير منه مقابل العلاج.. خرجت من بيتي ما يقارب الثامنة والنصف صباحا ولم أعد إليه حتى الساعة السادسة والنصف، لأشعر عندها بالإنهاك القاتل.. شعرت أن الأريكة شيء ثمين ما إن جلست عليها حتى شكرت ربي على نعمة البيت، نعمة السقف الذي يؤوينا، نعمة معرفتنا الأكيدة أننا بعد هذا العناء في الخارج سنعود لبيت وسرير وباب يُغلق علينا في أمان، نستحم ونأكل ونغيّر ملابسنا والكثير من الأشياء التي اعتبرتها البارحة كنز لا نشعر به إلا ما ندر جدا.
لكن ليس هذا فقط ما خطر في بالي، لقد خالط شعوري منذ اللحظة الأولى التي وضعت جسدي فيها على الأريكة شعور أولئك اللاجئين واللاجئات، قلت في نفسي: شعوري غاضب وممتعض لأني حدث وأن تأخرت اليوم كاستثناء في أيام حياتي (مع العلم أني قد تقدمت بشكوى على ما حصل أي أني لم أسكت عن حقي)، فكيف هم وقد شُرّدوا من بيوتهم ظلماً وبغير حق دون أن يأخذوا منها سوى الضروري جدا الذي يلزمهم، وفي كثير من الأحيان قد لا يأخذون شيئا سوى أجسادهم المحملة بذكريات الماضي وهموم الحاضر وغموض المستقبل.
أين هو السرير؟ أين هو الحليب؟ أين هي الألعاب والكتب؟ أين هو شعوره بالأمان الذي تلاشى وهو يشعر بحضن أمه الخائف يصعد وينزل الجبال والممرات كي يصل في النهاية إلى قارب مطاطي يهتز مع كل موجة في البحر؟ |
يعني أنك قد تدرس لسنين ثم لا تأخذ أوراقك التي تثبت ذلك، أن لا تستطيع أخذ شهادات ميلادك وأسرتك وجميع الوثائق الهامة المتعلقة بك وبهم، أن لا تستطع أن تأخذ معك ما يذكّرك ببيتك الذي قد هُدم فوق رأسك، أن لا تستطيع أن تأخذ فرشاة أسنانك وأنت في البراري ستجلس لأيام، لا ملابس داخلية أو حتى خارجية، لا فوط صحية لزوجتك وبناتك، لا حقيبة خاصة لطفلك الرضيع فيها ما يكفيه من الحليب والطعام والحفاضات، لا ماء نظيف لتغسل به وجهك بعد أن أحرقته الشمس وأكله الغبار وتراكمت عليه الأوساخ، لا مكان آدمي لتقضي حاجتك فيه وهي أقل ما يمكن أن تطلبه، لا ولا ولا لأشياء كثيرة نراها ونمارسها في حياتنا دون وعي بروعتها وبحاجتنا الفعليه لها، هذا بالإضافة لحملك الثقيل الذي هو أمانة برقبتك، زوجتك وبناتك وطفلك الرضيع الذي اعتاد أن ينام في سريره.
فأين هو السرير؟ أين هو الحليب؟ أين هي الألعاب والكتب؟ أين هو شعوره بالأمان الذي تلاشى وهو يشعر بحضن أمه الخائف يصعد وينزل الجبال والممرات كي يصل في النهاية إلى قارب مطاطي يهتز مع كل موجة في البحر؟ وإن بكى فإنه يجد من يزجره لأن مثله الكثير ولا أحد بحاجة لسماع صوت البكاء فوق صوت ضجيج الألم والتشرّد والمغامرة في البحر التي قد تكون قاتلة له ولكل من معه! لا مكان للمثاليات في مثل هذا الموقف ولا لأسس التربية الحديثة، ولا للطب النفسي، ولا للعنف وأثره على الأطفال قبل الكبار، لا مكان لشيء من هذه النظريات الحديثة، ولا مكان لبنود حقوق اللاجئين والاتفاقيات التي تعقدها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتنديدات الحكام العرب والاتحاد الأوروبي وغيرهم، لا مكان لحروف مكتوبة على الورق لا تقدّم ولا تؤخر في مثل هذا الموقف، ولا مكان لقمم ستُعقد لحل مشكلة اللاجئين في مثل هذا الموقف، لا مكان لمساعدات ستصل ولا لمساعدات قد وصلت والبيوت مهدمة فوق رؤوس أصحابها!
لا مكان سوى للأعصاب المشدودة والعقول المغيّبة التي لا تفكر بالمنطق بل تفكر فقط بكيف الخلاص، وإن كان الخلاص في النهاية هو ذوبان الأجساد وغيابها في مياه البحر لعلّ جراحها والآمها توزع في أعماقه وتختفي معها صرخات الطفل ومن معه للأبد، علّ البحر يكون أرحم بهم من أوطانهم التي لفظتهم لتُبقى على الكراسي ومن عليها!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.