شعار قسم مدونات

لا تتزوّج لمجرّد الزواج!

blogs زواج

لقد شغل موضوع الزواج البشرية منذ العصور السحيقة. وهذا ليس بمستغرب أبدًا، إذ أن الزواج هو مناط حفظ النوع البشري من الاندثار، وهو الوسيلة لتزويد الإنسانية بالعناصر الشابّة التي تحمل عبء الإنتاج في المجتمعات كافّة. فظهرت التشريعات الدينية والوضعية التي تنظّم العلاقة بين الرجل والمرأة، وتضع مؤسسة الأسرة في إطار حماية ورقابة المنظومات والمؤسسات الاجتماعية. وسال مِداد الحكماء والمفكّرين والفلاسفة متناولًا الحبّ والزواج من زوايا مختلفة ومن وجهات نظر متباينة. فجمهور العقول المفكّرة وصفوة الحكماء قد أعطوا هذا الموضوع اهتمامهم وعنايتهم، ولم يضربوا عنه صفحًا.

 

فهذا الفيلسوف الإغريقي العظيم أفلاطون يقول إنه يحبّذ للرجل أن يتزوّج عندما يكون في زهرة الشباب. وعندما سُئِل عن السن الذي يعنيه بالضبط، قال إنه زهاء سن الثلاثين. أما صاحبه أرسطاطاليس (أو أرسطو، في تسمية أخرى مختصرة)، فارتأى أن يؤخّر السن المناسب لزواج الرجل إلى السابعة والثلاثين. الملفت أن هذين الفيلسوفين قد اتّفقا على السن المناسب لزواج المرأة، وهو سن العشرين وما دونها، شريطة البلوغ بالطبع. وما يعنينا هنا ليس نصائح فلاسفة الإغريق بالنسبة إلى الزواج بما هي نصائح، وإنما نودّ الإشارة إلى عظيم أهمية موضوع الزواج بالنسبة الإنسانية، من حيث حضوره في عالَم الفكر حتى في أقدم العصور. 

 

جبران خليل جبران الذي عرف الحبّ وجسّده في أعماله نثرًا وشعرًا ورسمًا، لم تشأ الأقدار أن تمنحه هذا الحب زواجًا وإنجابًا وتكوين أسرة، فعاش عمره مغتربًا عن وطنه في كنف العزوبية

أما الشرائع الكتابية فقد أفاضت في الاهتمام بالزواج وبمؤسسة الأسرة، منذ موسى، مرورا بعيسى وختامًا بمحمّد، عليهم السلام أجمعين. وإن كان موسى ومحمد عليهما السلام قد تزوّجا وأنجبا، فإن عيسى عليه السلام قد عاش عمره القصير كله حَصورًا متبتّلًا، لم يتّخذ عقيلة ولم ينجب ذريّة. وقد كان الرسول محمد عليه الصلاة والسلام يحثّ الشباب على الزواج، كما جاء في الصحيحيْن: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وِجاء." و"الباءة" تعني النكاح. وقد فعلت الأديان السماوية كل ما بوسعها لصون مؤسسة الأسرة من الانحلال ولتحصين أبنائها من الوقوع في الانحراف والرذيلة. ورغم هذا التشجيع الواضح والصريح والبليغ من رسول الله عليه الصلاة والسلام للرجل المسلم بالسعي إلى الاقتران بشريكة حياته، فإن التاريخ الإسلامي يحفل بذكر عدد غير قليل من العلماء والأئمة العزّاب الذين آثروا العلم على الزواج، في كل العصور. 

 

فها هو أبو جعفر الطبري، الإمام العظيم والبحر الزاخر والمؤرّخ والمحدّث والفقيه والعلّامة الكبير، يمضي عمره بحثًا ودرسًا وطلبًا للعلم وتحصيلًا وتأليفًا وإنتاجًا غزيرًا، حتى شغله كل هذا عن اتّخاذ زوجة تشاطره المسرّات والمضرّات. وذلك شيخ الإسلام إبن تيمية يقضي عمره كله متعمّقًا في العلوم الشرعية، غائصًا فيها من رأسه حتى أخمص قدميه، فوافته المنية دون أن يتأهّل قطّ. أما سيّد قطب فإنه صال وجال بين الأدب والسياسة والشريعة والفكر، وأفرغ طاقاته وجهوده بين "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" وغيرهما، إلى أن سيق إلى حبل المشنقة شيخًا عازبًا قد ناهز الستين. والإمام الكردي التركي سعيد النورسي، صاحب "رسائل النور"، فقد استنفدت زهرة شبابه الدعوة ومعها التأليف والنشاطات في الذود عن الإسلام في زمن تركيا العلمانية الأتاتوركية، إلى أن أدركه الموت شيخًا كبيرًا لم يتزوّج قطّ ولم يترك ذريّة. ولا ننسى المصلح جمال الدين الأفغاني الذي أخذته حياة الفكر وسيطر عليه هاجس إصلاح أحوال الأمة الإسلامية، فنزل إلى ساحات النضال الفكري والسياسي، وسعى إلى إيجاد الأسباب للنهوض بالأمة، فلم تترك له كل هذه الشواغل والهموم متّسعًا من الوقت للزواج.

 

وإن ذهبنا إلى عالَم الأدب، لوجدنا أن جزءًا غير قليل من أهل القلم قد قضوا أعمارهم كلها دون أن يتسنّى لهم الدخول في القفص الذهبي. فالأديب المصري الكبير عبّاس محمود العقّاد، الغزير الإنتاج والموسوعي الثقافة اطلاعًا وتأليفًا، والشاعر والسياسي والمفكّر، قضى حياته كلها بين الكتب مطالعةً وتأليفًا، عازفًا عزوفًا نهائيًا عن الزواج. والأديب اللبناني جبران خليل جبران الذي عرف الحبّ وجسّده في أعماله نثرًا وشعرًا ورسمًا، لم تشأ الأقدار أن تمنحه هذا الحب زواجًا وإنجابًا وتكوين أسرة، فعاش عمره مغتربًا عن وطنه في كنف العزوبية التي أبت أن تفارقه حتى الممات. أما الأديب اللبناني ميخائيل نعيمه، صديق وزميل جبران خليل جبران في عالَمَيْ الأدب والاغتراب في أمريكا، فقد أسعفه القدر بالعودة إلى وطنه الأم لبنان بعد طول اغتراب، لكنه لم يسعفه في العثور على شريكة عمر يركن إليها، فتوفيّ عازبًا بعد أن بلغ من الكبر عتيا. 

 

النجاح والفشل في الحياة ليسا مرتبطيْن بالزواج أو بالعزوبية، وإنما على كل إنسان، بحدسه وقناعاته وتجاربه، أن يقرّر ما هو الخيار الأنسب والأفضل الذي يتلاءم مع شخصيته ويتوافق مع ظروفه
النجاح والفشل في الحياة ليسا مرتبطيْن بالزواج أو بالعزوبية، وإنما على كل إنسان، بحدسه وقناعاته وتجاربه، أن يقرّر ما هو الخيار الأنسب والأفضل الذي يتلاءم مع شخصيته ويتوافق مع ظروفه
 

وميدان العلم أيضًا يقدّم لنا أمثلة عن عباقرته ونوابغه الذين لم يتزوجوا قطّ. ولعلّ المثال الكافي والوافي هو العالم الفيزيائي العبقري إسحق نيوتن، الذي يُعْتَبَر واحدًا من أعظم عباقرة البشرية في كل العصور. لقد عاش مكتشف قانون الجاذبية حياة العزوبية حتى آخر يوم من عمره، رغم المكانة الاجتماعية المرموقة التي كان يتمتّع بها، والتي كانت، لو شاء، من الممكن أن تمنحه فرصًا ممتازة للزواج الناجح السعيد. ونحبّ أن نذكر هنا الفيلسوف الإسلامي الأندلسي العظيم أبا الوليد بن رشد، رغم أنه شذّ عن قاعدة العظماء العُزّاب الذين ذكرناهم آنفًا في هذه السطور. فسيرة ابن رشد تفيد أنه تزوّج ورُزِقَ بالذرية. لكن الملفت للانتباه أن تفانيه في طلب العلم يصحّ أن يضرب به المثل، فقد اشتغل بالعلم قراءة وكتابة في كل ليالي عمره باستثناء ليلتين اثنيتن لا ثالثة لهما: ليلة زفافه وليلة وفاة والده. 

 

وبعد، فإننا ذكرنا كل هذه الأمثلة للخالدين من عظماء وعباقرة لنقول أن العزوبية لم تكن عائقًا أمام هؤلاء للإبداع على أرقى المستويات. بل، على العكس، ربما ما كنّا لنشهد الكثير من إبداعاتهم لو أنهم تزوجوا. وهذا لا يعني أن العزوبية هي شرط للإبداع والعبقرية. فالكثير من أهل النبوغ والإبداع قد تزوجوا وأنجبوا الكثير من الأطفال، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، الإنكليزي شكسبير والروسي تولستوي. ولكننا نودّ أن نقول أن النجاح والفشل في الحياة ليسا مرتبطيْن بالزواج أو بالعزوبية، وإنما على كل إنسان، بحدسه وقناعاته وتجاربه، أن يقرّر ما هو الخيار الأنسب والأفضل الذي يتلاءم مع شخصيته ويتوافق مع ظروفه. 

 

وأخيرًا وليس آخرًا، فإننا نختم هذا المقال بالرسالة التالية: لا تتزوّج لمجرّد الزواج! تزوّج إن رأيتَ في الزواج فرصة حقيقية للسعادة وحافزًا قويا نحو النجاح. ولا تتردّد في اختيار حياة العزوبية إن رأيتَ أنها الأنسب لتفجير مواهبك ولتأمين الراحة والسعادة لك. ولا ترضخ لضغوط وأحكام المجتمع والناس، لأنهم لن يتركوك وشأنك على أي حال.