شعار قسم مدونات

ما نجهله عن الاختلاط!

blogs اختلاط

لسنا بصدد تحليل محرّم، وإنما غرضُنا الأساسي من هذه القضية هو العودة إلى منبع الأمر، العودة إلى حيث التشريع دون زوائد أو اجتهادات، ومن ثم إلقاء الضوء عليه بكل وضوح وبكل تجرد، لكي نعي كمّ التشعب والتضييق الذي مارسه الفقهاء الأوائل على النصوص الشرعية. نعم، لهم كل الاحترام والحب والتقدير على ما أسدوه للإسلام من اجتهاد وحفظ، لكنهم في الأخير بشر مثلنا تماما، يصيبون ويخطئون وهو الأمر الذي يجب أن ندركه جيدًا، حتى نستطيع أن نقود أمتنا إلى الأمام، لا إلى الخلف.

 

وطالما منحنا الله عقلا نفكر به، فلمَ لا نجتهد؟ لمَ لا نفكر بصوت مسموع علنا نصل إلى قناعتنا القريبة من الصحة التي تهدأ معها ثورتنا وتخفت التناقضات التي تثير فينا الشكوك. وفي الإطار ذاته علينا أن ندرك أن الأشياء الصحيحة لا تُنتقص بكثرة المرور وبالتدقيق والمناقشة، بل إنها لَتزداد قوة، بينما ما فيه ضعف يهوى صريعًا مع أول دليل منطقي يمكن أن نأتي به.

 

الاختلاط، كما سبق أن دللّنا، لم يُذكر بمعناه الشرعي المتداول حاليا في أي نص قرآني، ما يضعه بكل سهولة في مرمى البحث والتدقيق، خصوصًا أن جميع ما استند إليه الفقهاء في إيراد معناه والتشريع لوجوده لم يكن إلا عبر طريق الحديث النبوي الشريف، وفي استدلالهم على وجود هذا المصطلح ومن ثم حكمه، لجأوا إلى طريقين، الطريق الأول هو إثبات وجود الكلمة ذاتها في اللغة وما ترمي إليه في العموم، وذلك عن طريق القرآن وكذلك بعض الأحاديث، ومن الآيات التي دللوا بها على وجود هذا اللفظ في اللغة قوله تعالى "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" الأنعام/146، حيث استثنى القرآن اللحم المختلط بعظم من تحريم الشحوم على اليهود.

 

لا ننكر دعوة الإسلام إلى العفة، ونحن مع هذه الدعوة قلبًا وقالبًا ونجاهد في حياتنا أن نصل إليها، لكننا جديرون كبشر بأن نحظى بحياة تامة نعامل فيها الجميع بما يستدعيه المقام والحال
لا ننكر دعوة الإسلام إلى العفة، ونحن مع هذه الدعوة قلبًا وقالبًا ونجاهد في حياتنا أن نصل إليها، لكننا جديرون كبشر بأن نحظى بحياة تامة نعامل فيها الجميع بما يستدعيه المقام والحال
  

وكما نرى، فهذا تدليل لا يصب مباشرة في اتجاه إثبات المصطلح محل الخلاف إلى الشرع بقدْر إثبات عموم معناه في اللغة، وهو أمر لا يفيد ألبتة كوننا مدركين أن هذا المصطلح من الناحية اللغوية موجود ومستساغ التعامل به في قديم الزمان وفي حديثه، ما يترتب عنه خواء ذلك الدليل السابق من أي لزومية هنا. كما جاؤوا ببعض الأحاديث التي أتت على ذكر المصطلح من ناحية معناه العمومي كذلك، ومن تلك الأحاديث ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ" رواه البخاري (2487) والخليطان هما الشريكان، لأن رأسمالهما قد اختلط. وفي هذا الحديث دليل كذلك على وجود اللفظ في اللغة، وهو شيء نتفق فيه تمامًا، فاللفظ ليس أجنبيًا أبدًا.
 

بينما الجهة الأخرى التي اعتُمد عليها في إثبات هذا المصطلح ومن ثم تمرير حكمه ومواجهتنا به كشيء قابل النفاذ هو حديث مباشر للرسول صلى الله عليه وسلم أتى على ذكر هذا المصطلح، أي اختلاط الرجال بالنساء، وذلك في حديث رواه أبو داود (5272) عن أبي أسيد الأنصاري -رضي الله عنه- أنه "سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: (اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ) فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ".

 

وفي هذا الحديث ما يستوجب النظر من جهتين، جهة معناه وجهة سنده واتصاله؛ أما المعنى فكون النبي أمر النساء بأن يسرن خلف الرجال أو من بعدهم ليس معناه تماما التشريع لشيء لمنع وجود الرجال مع النساء مطلقًا، بل معناه الفصل بينهما في ما يخص التجمعات، لكن وجودهم مع بعضهم في مكان واحد هو أمر لا مضرة منه، خصوصًا إن استدعاه الحال، ولنا في تواجدهم معا تحت سقف مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع الصلوات خير مثال.

 

التفنيد السابق لا يعني أن رأيي هو الصحيح الذي لا منازع من ورائه، وإنما هو قياس عقلي ومنطقي ومحاولة لطالما أردتها في حياتي أسير معها إلى حيث مصدر الأمور ومنبعها

إن تلك الصورة الماثلة في أذهاننا عن صلوات المسلمين أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لَصحيحة جدًا، وهي تُقرّبنا، بكيفية أو بأخرى، من ذلك المعنى الذي نبحث عنه في هذا المقال ونتحراه، مسجد واحد غير مُقسم يحوي في ذاته مصلين من الجنسين، الرجال في الأمام والنساء في الجزء الخلفي من المسجد، إنها لَسماحية شديدة يُقرّها الإسلام في أدبياته الأولى بالنظر إلى ما يحتمه البعض الآن على الناس من تشدد ومن فصل تام بين مساحات الصلاة لكلا الجنسين. لم يكن المسجد حينئذ للصلاة فقط، بل كان بمثابة البيت الكبير الذي يجتمع فيه الجميع من أجل التعبد ومناقشة أمور الدين والدنيا والحياة. وبطبيعة الحال، كان الجانب النسائي حاضرا يستمع كما يصلي.

 

إننا لا ننكر أبدًا دعوة الإسلام إلى العفة وتجنب إصابة الكبائر كما الزلل. ونحن مع هذه الدعوة قلبًا وقالبًا ونجاهد في حياتنا لنصل إليها وليغفر الله الزلات، لكننا جديرون كبشر، رجلا كنا أو أنثى، بأن نحظى بحياة تامة نعامل فيها الجميع بما يستدعيه المقام والحال، نُسيّر حياتنا ونمضي في رحابها دون أدنى غضاضة أو تمنع أو تضييق لم يأتِ به ديننا. نٌقدّر كثيرًا حرص الأولين من الفقهاء علينا كأمة أن نقترف خطأ أو حتى ندنو منه، لكنّ هذا التقدير لا يجب أن ينسحب إلى مساحات التأييد التام لكل ما أتوا به من اجتهاد، بل يجب موازنة الأمور والبحث في ما وراءها جيدًا حتى نصل إلى قناعتنا المرجوة..

 

إن التفنيد السابق لا يعني أن رأيي هو الصحيح الذي لا منازع من ورائه، وإنما هو قياس عقلي ومنطقي ومحاولة لطالما أردتها في حياتي أسير معها إلى حيث مصدر الأمور ومنبعها، مجردة إياها من كل ما علق بها من زوائدَ لم تكن فيها يومًا ولن تكون. ولنا في عقائد الآخرين التي نعتقد كمسلمين أنها مُحرفة خيرُ محفز على أن نحاول جاهدين أن نصون ديننا من خلال البحث والتنقيب والعودة إلى حيث النبع -القرآن والسنة- دون تقديس لشيء سواه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.