شعار قسم مدونات

اللغة تكشف زيف الروايات (2)

BLOGS قرآن

القرآن ليس كتاب دين وحسب، فحتى لو شك العرب في أصالته الدينية وتخلوا عن إيمانهم بمصدره السماوي ذات يوم، فإنه سيظل بالنسبة لهم مدونة اللسان والثقافة الأولى والأهم، إذ لم يعرف العرب قبله كتاباً مسطورا بلسانهم، ولم يحظ كتاب بعده بما حظي به من الانتشار والبقاء والسلطة والتأثير. ومع وضوح هذه البدهية إلا أنها لم تكن واضحة في أذهان الذين وضعوا قواعد اللسان العربي ودرسوا لغته. بدليل أن قواعدهم النحوية التي استنبطوها من استقراء المصادر المختلفة، قد تعارضت مع أكثر من أربعين موضعا في القرآن، وهو ما دفع البعض إلى التشكيك في سلامة الأسلوب القرآني نفسه بدلا من التشكيك في منهج التقعيد اللغوي.

 

إلا أن لفقهاء اللسان العربي حسنة في هذا السياق تستحق الذكر، هي أنهم أجمعوا على استبعاد الأحاديث المنسوبة إلى النبي من مجال التقعيد اللغوي، بحجة أن معظم رواتها كانوا من الأعاجم. وظل النحاة على هذا الرأي قرابة ستمائة سنة، قبل أن يبدأ بعضهم في خرق الإجماع. والحق أنهم كانوا موفقين تماماً في هذا الموقف الذي حمى الدراسات اللسانية من أوهام كثيرة كانت تنتظرها. لولا أن هذا الرأي – كما قلت في الجزء السابق من هذه التدوينة – لم يتحول إلى إجراء نقدي لفحص الروايات التاريخية المنسوبة إلى النبي وصحابته. ولو أن ذلك قد حدث لأعادوا النظر في كثير مما يصفونه بالحديث الصحيح عند البخاري ومسلم وغيرهما، وسأضرب هنا مثلا أو أكثر يبين هذا المعنى بجلاء.
 

جاءت كلمة "جسم" في جميع مواضعها القرآنية صفة للكائن الحي. نحو قوله عن طالوت: "قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ"

لو سألت متخصصين في اللسان العربي عن الفرق اللغوي بين كلمتي "جسد" و"جسم" – مثلا – لما عرف الفرق بينهما إلا القليل منهم. وهم معذورون في ذلك لأن الدراسات اللسانية القديمة لم تشر إلى معظم الفروق الدلالية بين الألفاظ ذات المعاني المتقاربة. ولعل بعض المتقدمين -كما أرجح- قد اهتدى إلى الفرق الدلالي بين هاتين اللفظتين بالنظر في المدونة القرآنية، لولا أنه ارتطم بالنص الموازي (أعني الحديث المنسوب للنبي) فوجده مناقضا لما خلص إليه، فصرف نظره عن تحقيق المسألة واتهم عقله. في حين كان ينبغي أن يتهم الروايات التي تناقضت مع الاستقراء في المدونة القرآنية والشعر الجاهلي.

أجل، لقد تضمنت بعض متون الأحاديث الموصوفة بالصحيحة أخطاء لغوية دقيقة تشكك في صحة الرواية نفسها، أو في سلامة نقلها على الأقل. مثل ذلك الحديث الذي ورد في صحيح البخاري منسوبا إلى النبي محمد، وجاء فيه: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ". أهـ.

إن وجود كلمة "جسد" في النص السابق لدليل كاف على أن الحديث إما مكذوب على النبي جملة، وإما أن راويا أعجمياً قد بدل بعض ألفاظه بجهل. فصاحب اللسان العربي الأصيل لا يمكن أن يضع هذه الكلمة في هذا الموضع. لأن كلمة "جسد" في لسان العرب ترد صفة للجماد الذي ليس به حياة. وكان الأنسب أن يستبدل بها كلمة "جسم"، لأن هذه الأخيرة صفة للكائن الحي. بدليل أن القرآن قد استعملهما بهذه المعاني في كل المواضع التي وردتا فيها. ومنها عن الجسد قوله: "ومَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ". 8 الأنبياء. وقوله: "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا." 148 الأعراف. وقوله: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ". 34 ص.

في مقابل ذلك جاءت كلمة "جسم" في جميع مواضعها القرآنية صفة للكائن الحي. نحو قوله عن طالوت: "قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ" 247 البقرة. وقوله عن المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ". 4 المنافقون. والقرآن بهذا يتوافق مع لسان العرب الذي ميز بين الدلالتين، كما في الشاهد التالي من الشعر الجاهلي المنسوب لعروة بن الورد حيث يقول: أُقسّمُ جسمي في جسوم كثيرة، وأحسو قراح الماء والماء بارد.

هناك العديد من الأمثلة على روايات تاريخية صححها المحدثون وتضمنت أخطاء لغوية، تدل على زيف الرواية كليا أو جزئياً. كاستعمالهم لكلمة
هناك العديد من الأمثلة على روايات تاريخية صححها المحدثون وتضمنت أخطاء لغوية، تدل على زيف الرواية كليا أو جزئياً. كاستعمالهم لكلمة "روح" في محل كلمة "نفس" ولفظ "خلافة" ومشتقاته

هذه الحقيقة اللغوية تضع روايات عديدة، منسوبة إلى النبي محمد في كتب الصحاح نفسها، محل شك وريبة. حتى لو كانت مضامينها مقبولة؛ مثل هذا الحديث السابق، أو ذلك الآخر الذي ورد في صحيحي البخاري ومسلم أيضاً، ولفظه في البخاري: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى منه عُضْو، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". أهـ. فهذا الحديث يحمل مضمونا أخلاقيا مقبولاً، وتوفرت فيه شروط الصحة التي وضعها المحدثون، لكن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلته بالنبي ما دام أنه قد تضمن – في مختلف رواياته – خطأ لغوياً واضحاً كهذا.

ولولا أن مساحة التدوينة محدودة لضربت المزيد من الأمثلة على روايات تاريخية صححها المحدثون وتضمنت أخطاء لغوية من هذا القبيل، تدل على زيف الرواية كليا أو جزئياً. كاستعمالهم لكلمة "روح" في محل كلمة "نفس". أو نسبت إلى جيل النبي ألفاظاً وأساليب لم تُعرف إلا في أزمنة لاحقة. كلفظ "خلافة" ومشتقاته، التي استعملت في معنى الإمارة والسلطة. ومنها في صحيح البخاري حديث جاء فيه: "وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ". قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ". أهـ.

إن كلمة خلفاء التي وردت في هذا الحديث لدليل كاف على كذب نسبته إلى النبي. فهذه الكلمة لم ترد بدلالة سياسية إلا في وقت متأخر عن جيل النبي وجيل التابعين. وكانت العرب تستعمل في زمن النبي وقبله كلمة "الأمر" ومشتقاتها للدلالة على السلطة السياسية ومن يتولاها، كتسميتهم للرئيس أميراً، وحديث القرآن عن الشأن السياسي بلفظ "الأمر" في قوله: "وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ". 38 الشورى. وقوله: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ". 159 آل عمران.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.