إن الفهم الأفضل للعقيدة السياسية – العسكرية أو الإستراتيجية الحالية في الصين هو عنصر ضروري في تقييم النسق الوظيفي لهذه الدولة على مدى السنوات التي تلت الحرب الباردة، حيث إن الصينيين ركّزوا كل أهدافهم على مسار إحداث نقلة نوعية هائلة عبر التنمية الداخلية والتحديث الاقتصادي بالشكل الذي يفتح للصين آفاقاً جديدةً للانعتاق من شرنقة المحاور العالمية والتوجه نحو تمتين البنية التحتية للدولة، ومن ثم يكون من اليسير عليها لاحقاً أن تنفتح على العالم الخارجي.
إن لدى الصينيين قناعة راسخة بأن المتغيرات الهيكلية التي خلّفتها الحرب الباردة تتعارض مع فكرة انفراد قوة عظمى واحدة بالتحكم في قواعد اللعبة الدولية، فالعالم أصبح في زمن العولمة والاعتمادية، وفي ضوء تغير دوال القوة بدخول مفردات جديدة إلى الحسابات الإستراتيجية العالمية، كل ذلك في ظل حقيقة بروز قوى عالمية تمتلك من المقومات الاقتصادية والتقنية ما يجعلها منافساً محتملاً للولايات المتحدة، مع الإشارة إلى أن القوة الاقتصادية لتلك الدول من شأنها أن تثير رغبتها في تحسين قدراتها العسكرية في المستقبل وعلى نحو لا يسترعي الانتباه، لا سيما وهي تعتقد بضرورة أن تتجه الشؤون الإستراتيجية نحو التعددية.
إن الفكرة بأن هذا التحول الحاسم قد حدث بالفعل تنبئ بتفاقم الاختلالات البنيوية في النظام الدولي، نتيجة للإجراءات الأحادية التي عكفت عليها أمريكا على مدار العقدين المنصرمين، ولا سيما في ضوء ارتفاع سقف النزعة العسكرية الأمريكية بعد تحرير الكويت 1991 وغزو أفغانستان 2001 والعراق 2003. وقد كان الصينيون يشاركون الروس الموقف ذاته بأن واشنطن تنتهج سياسة التلويح بالحسم لمعادلة التوازن الإستراتيجي العالمي، وهو الأمر الذي حذا بها نحو تجاوز المؤسسات الدولية على نحو غير أخلاقي.
وتفترض النظريات السياسية أن اضطلاع الدولة الرائدة بأدوار سلبية في النسق الدولي سوف يجعل من إدارة الأزمات وتجنب الصراعات مسألة أكثر صعوبة وأقل إمكانية في ما لو أتيحت الفرصة أمام دول أخرى لا تقل طموحا ولديها ما يؤهلها لكي تتولى دوراً نشطاً في إدارة شؤون العالم في المستقبل. وفق هذا الافتراض يقوم التوجه الصيني الراهن، بالاعتماد على توظيف معيار الجيوبوليتيك بصورة أساسية كأحد محركات الصراع الإستراتيجي في حروب السيطرة والنفوذ، وبحكم الوزن الاقتصادي المُثير للانتباه والذي يعتبر رقماً صعباً في معادلة توازن القوى العالمي، ومن اللافت للنظر أن الصين قد حققت مزايا كبيرة في البنية الاقتصادية العالمية، ثم ترسّخت جدارتها الاقتصادية جرّاء الأزمة المالية عام 2008 والتي أضعفت الأداء المركزي للاقتصاد الأمريكي.
وفي ذلك الوقت شكّلت الصين أحد عناصر الإنقاذ بالنسبة للحكومة الأمريكية للنجاة من الانهيار العام. وقد استفاد الصينيون من هذه الأزمة في رفع كفاءة اقتصاداتهم الوطنية ومن ثم تعويم الاقتصاد الصيني في الأسواق العالمية في محاولة لتأسيس علاقة تكاملية قوية، تساعد الصين في الاستحواذ على حصص كبيرة من الاستثمارات والمبادلات التجارية، ويدخل ذلك ضمن مساعي السيطرة على قمة الهرم للاقتصاد العالمي، ومنذ مطلع العقد الحالي يقف الاقتصاد الصيني في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، وبحسب التقديرات الإستراتيجية المرتبطة بتقييم حركة الاقتصاد الصيني، فإنه من الممكن للاقتصاد الصيني أن يتفوق على الاقتصاد الأمريكي خلال العقد المقبل في حال استمرت الحكومة الصينية في تحسين صحة واستقرار اقتصادها.
إن تقييم النمط الاقتصادي لدى الصين من الناحية الإستراتيجية يعد تقييماً للثورة المتكاملة فيها، والتي تتقاطع مع المسار السياسي بصورة متلازمة، ويمثل مسار هذه الثورة بأبعادها المترامية أصعب قضية مطروحة للنقاش في الأوساط السياسية والإستراتيجية الأمريكية.
ولعل ما يجعل مسألة الصين ذات حساسية كبيرة بالنسبة للأمريكيين، هو التفاعل الراهن في خِضَمّ الأزمة النووية مع كوريا الشمالية، وذلك أن وجود الصين يشكل محوراً أساسياً ضمن الحسابات الإستراتيجية الأمريكية بشأن احتواء نظام كوريا الشمالية، والذي بدوره لا يُبالي حتى اللحظة بالمطالب الدولية لوقف مساعيه النووية والجلوس على طاولة المفاوضات.
وما يهمنا في هذا السياق هو وجهة النظر الصينية لحقيقة ما يجري في السياسة الدولية بشأن أزمة كوريا الشمالية، فقد أصبحت شبه الجزيرة الكورية وشرق آسيا في موضع تمحيصٍ دقيقٍ، فهناك نظام لا يقبل بالضغوط ولا يعترف بالدبلوماسية الناعمة ولا يتعاطى مع دبلوماسية الإكراه، وهذه مشكلة عميقة التأثير في حد ذاتها، بالنسبة للمضاعفات الأمنية والإستراتيجية متعددة الأطراف في منطقة شرق آسيا، وربما يكون أكثر ما يقلق الصين في هذا الموقف هو احتمالية الانزلاق في مفهوم "الردع المستتر"، وقد تنشأ هواجس الصين، أيضاً، إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على تأسيس قواعد جديدة لا تستوعب الضرورات الجيواستراتيجية والجيوسياسية بالنسبة للصين على وجه التحديد.
ولا ريب أن ما تريده الصين بشكل حثيث، يكمن في إنجاح المسار الدبلوماسي لقطع الطريق على واشنطن وإفشال تخطيطها الإستراتيجي العسكري في شرق آسيا، ويرى البعض من رجال المؤسسة السياسية الصينية أن وجود نظام مسلّح بالترسانة النووية في كوريا الشمالية يمكنه أن يشكل ورقة مساومة في صوغ قواعد اللعبة في آسيا برمتها، ويتوقف ذلك على اقتدار الصين في توفير معطيات مُتسقة لتقريب وجهات النظر بين الكوريين والأمريكيين للخروج من الأزمة بأقل آثار جانبية ضارة للأمن الإقليمي.
المعادلة لدى الصين خاصة إلى حد كبير، فهي لا يمكنها المساومة على مصالحها الحيوية، وربما أكثر من ذلك تكمن في الحفاظ على المكتسبات الفائقة التي تحققت لها خلال الدرب الطويل والعمل الشاق في النهوض والتحديث، وهي تدرك أن التقاطع الملائم بين السياسة والاقتصاد وتوفير التقنية والمكانة العسكرية، سوف يخدم بالضرورة الثقة اللامتناهية للصين بشأن قدراتها ونفوذها الإقليمي، ومن المفترض أن يعي صانعو القرار الإستراتيجي في الصين أن قيام قوة عظمى في العالم أو اندثارها، يتطلب الانخراط في حرب عالمية مدمرة أو في صراع كوني عارم، ومن غير المنطقي أن تكون الصين جاهزة لهذا الاحتمال.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.